المنيا واحدة من أكثر محافظات مصر التي تجمع متناقضات كثيرة، وأبرزها وجود نسبة كبيرة من المواطنين المسيحيين (الأقباط)، وفي الوقت نفسه ترتفع بها نسبة الاعتداءات الطائفية عليهم، ثم تُطبَّق بها جلسات عرفية مُجحِفة يفرض فيها المعتدون من الأغلبية المسلمة شروطًا مُجحِفة على المعتدى عليهم من الأقلية القبطية. وللأسف، تتنازل الدولة عن دورها في ممارسة سيادتها، وبدلًا من أن يطبق موظفوها في مختلف مواقعهم القانون لفرض هيبة وسيادة الدولة، يرعون تلك الجلسات العرفية المجحفة، وهو ما حدث في الواقعة الأخيرة بقرية نزلة الجلف بمركز بني مزار بالمنيا.
لا تخرج أحداث العنف والاعتداءات الطائفية على الأقباط عن سببين رئيسين: أولهما محاولتهم بناء كنيسة، أو بسبب علاقة عاطفية بين مسلم ومسيحية، أو مسيحي ومسلمة كما أُشيع في القصة الأخيرة في قرية نزلة الجلف. والنتيجة واحدة دائمًا، تخرج الأغلبية حانقة وغاضبة تشعل النار في القرية المزمع بناء الكنيسة بها، أو التي انتشرت فيها قصة العلاقة العاطفية، ويتم الاعتداء على غالبية سكان القرية من الأقباط وحرق ونهب ممتلكاتهم. ثم تُعقد جلسة عرفية يحضر فيها أحد الكهنة ممثلًا عن الأقباط، وسواء كانوا جناة (وهذا فيما ندر) أو ضحايا (وهو وضعهم الغالب)، يتم التنكيل بهم، وفرض شروط قاهرة وغرامات مالية ضخمة على الفقراء، ثم الحكم بتهجيرهم من قراهم وممتلكاتهم.
ومن المفارقات العجيبة هنا، فإن الدولة بأجهزتها المختلفة بذلت جهودًا كبيرة في حفظ الأمن القومي المصري، ووقفت تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء الذي دعا إليه سابقًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولكن قطاعًا من موظفيها يسمحون بتهجير مواطنين مصريين من بيوتهم وممتلكاتهم وقراهم. فلا يمكن اتهام الدولة التي استطاعت أن توقف مخطط تهجير سكان قطاع غزة بأنها عاجزة أو ليس لديها القدرة على وقف تهجير مجموعة من سكانها من بيوتهم بسبب ضغوط الأغلبية من السكان، فهذا غير منصف وغير حقيقي على أرض الواقع. لكن يبقى السؤال: لماذا يتقاعس بعض موظفيها عن تأدية عملهم ومسؤولياتهم في محافظة مثل المنيا؟
الكاتب الصحفي والباحث في الشأن القبطي سليمان شفيق، الذي رحل عن عالمنا منذ نحو شهرين، كانت له رؤية عن محافظة المنيا، وهي مسقط رأسه وعاش بها فترات كبيرة من حياته، مفادها أنها تحتوي نسبة كبيرة من اﻷقباط، وكذلك نسبة كبيرة من الجماعة اﻹسلامية التي مارست اﻹرهاب خلال الثمانينيات والتسعينيات وأبرز قياداتها الذين قتلوا الرئيس أنور السادات. كما يتواجد بها نسبة كبيرة من اﻷمية، وكذلك توجد جمعيات مجتمع مدني قوية تعمل في التنمية، مثل مركز الجزويت الثقافي، وجمعية الصعيد للتربية والتنمية، والهيئة القبطية اﻹنجيلية للخدمات الاجتماعية، وغيرها، ولهم جميعًا جهود قوية في زرع قيم العيش المشترك، لكن رغم ذلك تكثر الحوادث الطائفية ﻷنها محافظة كبيرة المساحة.
أما عن تقاعس المسؤولين في محافظة المنيا عن ممارسة دورهم، فليست المرة الأولى، ففي مايو 2016 جرى اﻻعتداء على بيوت المسيحيين في قرية الكرم بمركز أبو قرقاص، بسبب الشائعة ذاتها، وتم حرق بيوت المسيحيين وسحل وتعرية السيدة سعاد ثابت وعُرفت هذه القضية باسم “سيدة الكرم”، وانتهت القضية ببراءة المتهمين، مع أن حكم أول درجة كان 10 سنوات سجن غيابيًا للمتهمين الثلاثة. [1]. وهكذا لا يحاسب أحد قانونيًا، وغالبية اﻻعتداءات تنتهي بجلسة عرفية كما في واقعة نزلة الجلف الأخيرة.
من المعروف أن العُرف هو الحاكم، خاصةً في محافظات الصعيد الجنوبية من سوهاج إلى أسوان، والعُرف هنا له قوة ويتم إنفاذه على الجميع. لكن المنيا من ضمن متناقضاتها؛ فهي تقع ضمن إقليم الصعيد، لكنها لا تحتفظ بنفس قوة العُرف كما في المحافظات الجنوبية، فهي ليست محافظة حضرية تمامًا كالقاهرة، ولا صعيدية مثل قنا أو الأقصر في تطبيق العُرف.
أذكر واقعة حدثت في 2016 بقرية العديسات في الأقصر، حينما حاولت بعض الفتيات المسلمات التأثير على زميلتهم المسيحية لترتبط بشاب مسلم، ووفقًا للمصادر التي لجأت إليها وقتها لتتبع تلك الواقعة، فإن أسر الفتيات المسلمات ذهبوا إلى أسرة الفتاة المسيحية ليعتذروا لهم، ووعدوا بأنهم سيحسنون تربية بناتهم حتى لا يتكرر الأمر مجددًا. وسألت وقتها مصدري الذي يعيش في الأقصر عن سبب هذا التصرف بدلًا من محاولة احتواء الفتاة المسيحية وتحويلها للإسلام كما يحدث في محافظات أخرى مثل المنيا، فكان الرد: “إن هذه الأسر لا يسعدها أن تترك فتاة أخرى دينها وأسرتها، لأنهم إذا سمحوا بحدوث هذا اليوم، فقد يتكرر الأمر معهم مستقبلًا.”
وإذا لم يكن لدى المنيا عرف قوي يحترمه السكان كما في اﻷقصر أو قنا، فيجب على الدولة أن تدرب موظفيها على إنفاذ القانون في أي حدث طائفي وتحقيق العدالة بين المواطنين عبر اﻹجراءات القانونية. وهذا ليس فقط من أجل العدالة للمواطنين المعتدى عليهم، بل من أجل هيبة وقوة الدولة في عين مواطنيها بأنها ﻻ تفرق بينهم وتنفذ القانون وتحقق العدالة.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.
