العدالة واحدة من القيم التي يسعى البشر إلى تحقيقها، ويصعب تحقيقها بسبب طبيعة الحياة التي تمتاز بالتباين والاختلاف والتنوع. ورغم أنها قيم جيدة نحاول دعمها والتمسك بها اليوم، إلا أنها أيضًا من أسباب انتشار النزاعات بين البشر على مر العصور. وعدم فهم الاختلاف والتنوع كان سببًا في اضطهاد مجموعات مختلفة عن أولئك الذين نعتبرهم طبيعيين أو (Default). اليوم، وفي ظل بناء منظومة حقوق الإنسان عقب (1945)، يحاول البشر تعويض المجموعات المضطهدة بضمان حقوقها، وتعويضهم عما فات، وقد بدأ ذلك يتحقق بعض الشيء، لكن ظهرت مشاكل أخرى في محاولة تحقيق ذلك.

ما أود الإشارة إليه هو عدم مساعدة المجموعات المضطهدة على التعافي مما ألمّ بهم، ولكن بينما نحن نحاول مساعدتهم، يتحول بعضهم إلى وحوش منتقمة دون أن ندري، وتستمر الحلقة المفرغة من وجود مجموعات تعاني من الظلم والاضطهاد، ويتحول الأمر أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، ومن وقت لآخر يتبادل الأطراف مقاعدهم.

ولنبدأ ببعض الأمثلة من التاريخ حتى تتضح وجهة نظري. فمثلًا، عانى المسيحيون على فترات خلال القرون الثلاثة الأولى من الاضطهاد على يد الحكام الرومان. وجاء ال بمرسوم التسامح الديني عام 313م، واعتُبرت المسيحية من ضمن الديانات التي تعترف بها . فماذا حدث؟

في البداية، نشبت الصراعات بين المسيحيين أنفسهم، وتحولت الإسكندرية إلى ساحة صراع بين أتباع القس السكندري وأتباع الكنيسة الرافضين لتعاليمه. ثم، بعد ذلك بعقود وبعد استقرار وضع المسيحيين، أصدر ال، حفيد الإمبراطور قسطنطين، مرسومًا باضطهاد الوثنيين في عام 392م، واستغل البابا ثاؤفيلس رقم 23 من باباوات الإسكندرية ذلك، وبدأ يضطهد اليهود والوثنيين في الإسكندرية، واستمر العنف بعد مماته. وفي عصر ال، تم قتل الفيلسوفة والعالمة المصرية السكندرية ، والتمثيل بجثتها والتنكيل بها بطريقة بشعة، ليعاد تكرار مشهد قتل القديس مرقس، عام 68 من القرن الأول الميلادي، مرة أخرى في بدايات القرن الخامس الميلادي عام 415م.

ربما هنا، ونحن نتكلم عن القرون الخمسة الأولى للميلاد، غاب مبدأ مهم من مبادئ “العدالة الانتقالية”، وهي أمور صيغت حديثًا في النصف الثاني من القرن العشرين بعد نشأة والمؤسسات والمنظمات والمواثيق والعهود الدولية، وهو “تحقيق المصالحة”.

عندما يقع عنف تجاه مجموعة ما، يكون العلاج هو وقف هذا العنف، والاعتراف بحقوق هذه المجموعة ودعمها في العيش بأمان وسلام، والتعبير عن ثقافتها. ويتحقق ذلك بالمصالحة بين الأطراف التي ارتكبت الظلم بعد اعترافها بخطئها وتقديم اعتذارات عما بدر منها. وفي الوقت نفسه، يجب أن تسامح وتغفر المجموعات التي عانت، حتى تتوقف دائرة الظلم. لكن ما يحدث من البشر والدول والحكومات والمنظمات الدولية أقل من ذلك؛ فبينما تتم مساندة المجموعات الضعيفة لنيل حقوقها، يتحول الأمر مع الوقت، ويتحول بعضهم إلى وحوش.

ولنا مثال المجموعات المختلفة من ذوي الأصول الإفريقية من أصحاب البشرة السمراء، حيث عانوا من العبودية والاضطهاد لقرون عدة، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. واليوم، بعد توقف العنصرية رسميًا من الحكومات، يتم التجبر على آخرين، مثل المواقف التي يتم فيها الصراخ في وجه بعض المواطنين من أصحاب البشرة البيضاء، باعتبارهم مسؤولين عن اضطهاد أصحاب البشرة السمراء، وهذا يمثل اختلالًا في المعايير. فالشخص صاحب البشرة البيضاء الذي يُصرَخ في وجهه قد يكون من مؤيدي حقوق كل البشر ولم يمارس العنصرية تجاه أحد، فلماذا يُحمَّل خطأً لم يرتكبه، ويُطلب منه أن يشعر بالندم والتكفير عن ذنب لم يقترفه، ويُطلب منه ذلك فقط لأن شخصًا ذا بشرة بيضاء ارتكب منذ قرون أو عقود أخطاء بحق آخرين؟ وبالمنطق نفسه، قد يكون صاحب البشرة السمراء ولد اليوم ولديه كافة الحقوق الدستورية، ويمارس مواطنته، ولم يتعرض لاضطهاد، فلماذا يتم تحويله إلى شخص يريد الانتقام؟

طبعًا، لا أدعو إلى التغاضي أو نسيان ما حدث للشعوب من ظلم واضطهاد، بل يجب تذكر ذلك حتى لا يتكرر مجددًا. لكن لا يجب أن يظل البشر أسرى الماضي الأليم، ولا يعيشوا الحاضر، وبالتالي سيكون مستقبلهم محل شك.

ثم، ومن أجل استرضاء من تعرضوا لظلم، يتم التنكيل بآخرين، كما يحدث عند تبني البعض لروايات مجموعة الأفروسنتريك/ المركزية الإفريقية عن كونهم أصل الحضارة المصرية القديمة، والادعاء بأن المصريين الحاليين ليسوا مرتبطين بالمصريين القدماء، وأن الحضارة المصرية تخص أصحاب البشرة السمراء فقط. فهنا، دون أن ننتبه، وفي دعم الضحايا، نحولهم إلى جلادين تجاه آخرين.

نفس الأمر يتكرر اليوم، فقد تم التنكيل باليهود وإقامة محرقة “الهولوكوست” لهم خلال الحرب العالمية الثانية. وللتكفير عن هذا الذنب، تمت مساعدتهم في إقامة دولتهم ومساندتهم أمام خصومهم من العرب، فأصبحوا بالفعل الأقوى. واليوم، نفس الذين شعروا بالذنب تجاه اليهود، يشعرون بالذنب تجاه سكان غزة من الفلسطينيين، ويحاولون مساندتهم ويتظاهرون ضد إسرائيل. ولكنهم، وهم يحاولون مساندة الفلسطينيين، يتوجه دعمهم ل التي حولت فلسطين من قضية إنسانية وحق شعب في تقرير مصيره، إلى صراع ديني بين مسلمين ويهود. وستظل الدائرة المفرغة من الانتقام وتبادل الكراسي بين من يمارس الاضطهاد اليوم، ومن سيقع عليه الاضطهاد غدًا.

أتفهم أن من ارتكب ذنبًا أو جرمًا، ويريد أن يكفر عنه، فإنه يفعل الصواب. لكن ما لا أتفهمه هو أن يُطلب ممن لم يرتكب الجرم أن يكفر عنه مع من ارتكبه. وضربت مثالًا بتطرف الأفروسنتريك ومحاولة ادعائهم بأنهم أصحاب الحضارة المصرية. فإذا كنت أنا كمصري لم أضطهد جيراني من قارة إفريقيا، بل أقدرهم وتعلمت أننا جزء من نفس القارة، وأن هناك روابط إنسانية وجغرافية وثقافية بيننا، فلماذا يُطلب مني أن أكفر عن ذنب لم أرتكبه تجاههم؟ بل إن من ارتكب هذا الذنب، بدلًا من مساعدتهم واحتوائهم من أجل مستقبل أفضل، يساهم في تحويل بعضهم إلى وحوش تمارس اضطهادًا على غيرهم. والأمثلة في هذا السياق كثيرة.

في الأسبوع الماضي كتبت مقالًا بعنوان “تمييع حقوق الإنسان” وكنت أناقش فكرة قريبة من مقال اليوم، وهو وقوف منظومة حقوق الإنسان عند مرحلة أن نقول إن هناك مضطهدين يعانون، ولا ننطلق لخطوة أفضل فتكون كل الإجراءات ترسيخ مفهوم أن هناك جماعة تعاني، ونقف عند هذا، لأن بهذه الطريقة سيتحول العالم إلى مجموعة صغيرها وجميعها تحتاج لمعاملة خاصة، ولا يجب المساس بها، بالتالي لا يمكن انتقاد تصرفاتهم، أو تقييمهم بشكل موضوعي، وأغلبهم يعجبهم أن يكون لهم وضع خاص.

أخيرًا، بعد كل هذه الثرثرة وربما تصارع الأفكار، أتمنى أن تتوقف الحلقة المفرغة من وجود مَن يمارسون الاضطهاد، كما أتمنى لمن عانى من الظلم والاضطهاد أن يحصل على حقوقه وتُردّ له كرامته، وألا يستسلم للمشاعر السلبية الناتجة عن المعاناة، وأن يُسامح ويغفر، وأن يحول المعاناة إلى طاقة إيجابية، وأن نبني مستقبلًا أفضل ونجد طريقة نتقابل فيها ونتعاون حتى مع من مارسوا الظلم من قبل وقد اعترفوا بالخطأ وحادوا عن الاستمرار في ممارسته، وألا نُحمّل من لم يرتكبوا جرمًا أخطاء غيرهم لمجرد أنهم يشتركون معهم في اللون أو الدين أو العرق أو الجنس، فنتحول نحن إلى جلادين جدد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 5 حسب تقييمات 3 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

پيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎