بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حاول البشر اللجوء إلى آليات سلمية لحل الصراعات والمشاكل، واستخدام الحوار والتفاوض كوسيلة لحل النزاعات، فكان تأسيس منظمة اﻷمم المتحدة في 24 أكتوبر 1945، بعد عدة أشهر من المؤتمرات والتحضيرات لصياغة ميثاق المنظمة الجديدة في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا اﻷمريكية [1].
في 10 ديسمبر 1948، كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمثابة دستور حقوق الإنسان في العالم. أُضيفت إليه لاحقًا عدة مواثيق وعهود مكملة، أبرزها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966. بعد هذا التطور وهذه الجهود، بدأ المنحنى في الهبوط، والصراعات تطفو مجددًا حول العالم.
وكحال أي فكرة أو مشروع أو كائن حي، يولد طفلًا، ثم يكبر وينمو في مرحلة الشباب، ثم يصل إلى الشيخوخة والموت. وما أخشاه أنه بدأت مرحلة النهاية للنظام الدولي الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية منذ عام 2003، عندما قررت الولايات المتحدة تكوين تحالف دولي لضرب العراق بعيدًا عن الأمم المتحدة وأجهزتها. واليوم، العالم يشتعل بعديد من الصراعات والحروب في أماكن متفرقة حول العالم، لعل أبرزها، وما يؤثر على منطقتنا، الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد عملية 7 أكتوبر 2023، بهجوم حركة حماس على مدنيين إسرائيليين. وتوسعت الحرب لتشمل ضرب حزب الله في جنوب لبنان، والحرب بين إسرائيل وإيران. وفي أوروبا، تشتعل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولا يبدو أن للمؤسسة الدولية أي دور في نزع فتيل تلك الحروب، ووقف قتل الأبرياء والمدنيين جراء القصف والحرب.
هذا على مستوى العلاقات والسياسة الدولية. أما على مستوى حقوق الإنسان والأفراد، فرغم الجهود الكبيرة المبذولة على مدار تاريخ المنظمة الدولية في ترسيخ حقوق الإنسان لكل البشر دون تمييز بين دين أو جنس أو عرق، ووجود اتفاقيات خاصة لضمان حقوق الأقليات والأشخاص ذوي الإعاقة والمرأة والطفل والشعوب الأصلية ومجتمع الميم، وغيرها من المجموعات المختلفة، فإن النزاعات السياسية بين تيارات اليمين المحافظة من جهة وتيارات اليسار، ألقت بظلالها على منظومة حقوق الإنسان العالمية في مختلف دول العالم، وصار هناك لوم بأن حقوق الإنسان لم تعد كما كانت، بل أصبحت مُسَيَّسة وتدخل في الصراعات السياسية في مختلف المجتمعات.
وربما واحدة من أسباب ضعف منظومة حقوق الإنسان الدولية حاليًا هو الاكتفاء بدعم الفئات الضعيفة والمهمشة والأقليات وغيرها، لكي تظهر وتعبر عن نفسها، وهو أمر مهم في ظل الفرز والغبن والضعف الذي عانت منه المجموعات المختلفة حول العالم طوال سنوات طويلة. ولكن في رأيي، هذه مرحلة أولى كان يجب أن تتبعها مرحلة أخرى من الاندماج مع مجموعات الأغلبية أو الأقوى، ليكون كل البشر متساوين في الحقوق والواجبات. وهذا ما لم يحدث بشكل كبير، وظللنا عند مرحلة الشكوى فقط، بل إن بعض المجموعات استلذت البقاء في هذه المرحلة، لأنها تحقق من خلالها مكاسب بابتزاز مشاعر الآخرين، باعتبارهم ضعفاء يحتاجون للدعم والمعاملة الخاصة دائمًا، وصار العالم عبارة عن مجموعات صغيرة، كل منها تحتاج لتعامل خاص وتتنازع مع غيرها.
اليوم، أرى أن حقوق الإنسان تعيش حالة من الميوعة. فبدلًا من التمتع بنفس الحقوق، وأن تتاح لهم نفس الفرص، وأن تكون الكفاءة معيار النجاح، فإن هذا المبدأ يتراجع. وفي المقابل، كما ذكرت، تحقق بعض الفئات مكاسبها ليس من التمتع بنفس الحقوق ومنافسة غيرها، بل من الاستمرار في مرحلة الضعف واستدرار العطف وابتزاز الآخرين بضعفهم، لتحقيق مكاسب، بدلًا من الوصول إلى المساواة والمنافسة من موقع القوة، وليس الضعف.
هل كل الفئات الضعيفة تتصرف بتلك الطريقة؟ بالطبع لا، وهناك فئات ومجموعات مختلفة حول العالم تعاني وتحتاج إلى ما يُعرف بالتمييز الإيجابي، ودعمها حتى تحصل على حقوقها مثل بقية المجموعات المختلفة وتتنافس من موقع قوة ومساواة. لأنه في رأيي، استمرار التمييز الإيجابي دون حدوث تطور يعني ترسيخ أن هذه المجموعات ستظل ضعيفة، وهذا سيقودنا إلى صراع مستمر بين فئات ترى كل واحدة في نفسها الاستحقاق لتكون مميزة عن الآخرين، ويضيع مبدأ المساواة في الحقوق بين كل البشر، وستغيب الكفاءة كمعيار للتنافس بينهم.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.
