أنا اتولدت واتربّيت في حضن الكنيسة الأرثوذكسية؛ الله انتشلني من الشارع وأنا صغير، وسلّمني لحضنها كأم حقيقية، وبأبوة الله اللي رعاني من أول الطريق. ولسنين طويلة، وأنا بسمع أن لوثر “هرطوقي”، وأن البروتستانت “منشقّين”. كان فيا النزعة الطائفية المألوفة عند اللي يكبر في بيئة متديّنة تقليدية: إحساس إننا “الأعلى” وهما “الأدنى”، وإننا نحفظ الإيمان في حين غيرنا يهدمه.
كنت أخوض الخناقات الطائفية المعتادة: عن العذراء والقديسين والشفاعة والإيمان والأعمال والتناول والأسرار… إلى أخره. لكن مع مرور الوقت، ولما ربنا إدّاني عينين أبسط، اتضح لي إن كل الخلافات دي جاية من منبع واحد داخلي: ذاتي المتضخّمة والأنانية سرًا، والبيئة الدينية التقليدية، وغياب “الغذاء المناسب” اللي كان المفروض يغذّي الداخل ويشفيه.
بدأت رحلة البحث وقررت أدور ورا لوثر -مش بعيون الموروث الطائفي- لكن بعين البحث. دخلت أقرأ سيرته وأقواله وتاريخه. واللي لقيته ماكانش صورة “المضطرب نفسيًا” اللي بتقدّمها البوستات الشعبية، أو النظرة السطحية/المنتفخة اللي موجودة في خطابنا الكنسي، لكن صورة إنسان عدى بصراع داخلي مرير لأنه كان صادق وحقيقي مع نفسه قدّام الله.
وأنا فهمت ده لأنّي عشت نسخة مصغّرة منه: الخارج مليان ممارسات دينية وطقوس، لكن الداخل محبوس ومقيّد. لحد ما وصلت لصرخة حقيقية لمخلّص حقيقي (من موت محقق). وهناك لمست يد الله وهي تنتشلني. اللحظة اللي كنت فاكرها نهايتي (الأرض تنشق وتبلعني) اتحولت بحضوره لبدايتي الجديدة.
صراع لوثر ده مش “مرض” ولا “هشاشة” (زي ما وصفه أحد المنتقدين: جنون، اضطراب، انكسار… إلخ). لأ، ده علامة إن الشخص واقف فعلًا قدّام الإله الحي، في علاقة شخصية من غير تجميل ولا تخفيف، لكن بأمانة. وده خط نبوّي معروف: من أيوب اللي جادل الله بألم، لإرميا اللي صرخ: “لماذا كان وجعي دائمًا؟”، لإشعياء اللي قال: “ويلٌ لي إني هلكت”، لبولس الرسول اللي صارع مع الناموس والنعمة. كلهم اتوجّعوا لأنهم كانوا حقيقيين في مواجهة القدوس. ولوثر في المسار ده مش استثناء، بل شاهد جديد. وده على عكس سير كتير من القديسين اللي كنت أقرأ وأسمع عنهم، من غير ما ألمح في حياتهم ملامح الصراع الداخلي -إلا قلة قليلة. أغلب السير كانت أشبه بقصص “سوبر هيروز” من الميلاد لحد الممات، من غير ضعف أو عراك داخلي.
ليه المقال ده؟
المقال ده محاولة إني:
1. أفكّك مغالطة “رجُل القشّ” اللي بُنيت حوالين شخص لوثر، وحياته، وكلامه، ومبدأه.
2. أقدّم صورة تاريخية ولاهوتية منضبطة لـ Sola Scriptura، بعيدًا عن الكاريكاتير اللي بيتقدّم للناس اللي مش بيقرأوا ولا بيدوروا بأمانة.
3. أدمج خبرتي الشخصية كشهادة -مش لتاخد مكان البحث، لكن علشان توضّح إن الصورة دي مش مجرد تنظير على ورق.
تشخيص مغالطة «رجُل القشّ»
منتقدوا لوثر بيعملوا حركة جدلية كلاسيكية: يبنوا نسخة كرتونية هشّة من موقف الإصلاحيين -وبالذات لوثر- وبعدين يهاجم النسخة دي بدل ما يواجه المشهد الحقيقي.
دي باختصار مغالطة رجُل القش:
• تشخيص شخصاني: يختزل الإصلاح كله في “نفسية لوثر المضطربة”، كأن الأزمة اللاهوتية والسياسية والاجتماعية كانت مجرد مزاج فرد. وده تجاهل لبنية أزمة ممتدة وموثّقة في التاريخ الكنسي، مش في “حالة نفسية” واحدة.
• خلط بين مبدأين مختلفين: يساوي بين Sola Scriptura كما صاغها المصلحون (الكتاب هو السلطة المعصومة الوحيدة وسط سلطات ثانوية خادمة) وبين نسخة فردانية لاحقة Solo/Nuda Scriptura (“أنا والكتاب وحدنا”)- وده تحريف حداثي مش بيعكس الموقف التاريخي. [1]
• تصوير الكنيسة الأولى كأنها عاشت بلا كتاب: يوحي إن المسيحية الأولى كانت عايشة من غير نص مكتوب لأكتر من قرن. لكن الحقيقة إن الكنيسة ورثت العهد القديم كنص مُلهَم مُقدس استند إليه المسيح والرسل، والشهادة الرسولية نفسها بدأت مكتوبة تدريجيًا (رسائل بولس ثم الأناجيل)، لحد ما تبلور قانون العهد الجديد رسميًا في قرطاجنة 397م. [2] [3]
• إظهار الرجوع للكتاب كتمزيق للجسد: كأن أي عودة للسلطان الكتابي معناها انشقاق. بينما الإصلاح التاريخي لم يكن فرداني ولا فوضوي: المصلحون دوّنوا اعترافات إيمان، أسّسوا مجالس ضبط كنسي، وأجروا إصلاح ليتورجي بالتنقية لا بالاجتثاث. [4]
ملاحظة منهجية
أي نقدّ لـ Sola Scriptura يلزمه بدايةً أن يهاجم نسختها التاريخية (Tradition I عند ماثيسون)، لا نسخةً راديكالية لاحقة لم يقل بها المصلحون. وأي قراءةٍ لشخص لوثر بمعزلٍ عن ملف الفساد المؤسسي تقع -بالتعريف- في مغالطة رجل قشّ شخصاني.
1) أين يقع «رجُل القشّ» تاريخيًا؟
القرنان الرابع عشر إلى السادس عشر ماكانوش مسرح اضطراب فردٍ واحد، بل أزمة بنيوية ممتدّة تراكمت طبقاتها فوق بعضها لحدّ ما انفجرت في مطلع القرن السادس عشر:
أ) على مستوى الكرسي الرسولي (البابوية)
• الأسر البابوي في أفينيون (1309–1377): انتقال الكرسي إلى أفينيون تحت نفوذ البلاط الفرنسي كسر هالة “الكنيسة الجامعة” لروما، وفتح باب الاتهام بـ«سبيّ بابل الكنسي». [5]
• الانشقاق الغربي (1378–1417): تنازع بابوان ثم ثلاثة على الشرعية قسّم الممالك والولاءات، وهزّ صورة “وحدة الكنيسة التي لا تنقسم” في الوعي الكاثوليكي. [6]
• بابوات النهضة ومحسوبية الأقارب: سكستوس الرابع رقّى أقرباءه لمناصب عليا (نِبوتية). [7] [8] ويوليوس الثاني انخرط عسكريًا حتى لُقِّب «البابا المحارب». [9] ثم جاء ليون العاشر ببلاطٍ مترف وإنفاق فني ضخم أرهق الخزانة. [10]
• تمويل المشاريع والحروب عبر صكوك الغفران: هنا يظهر عمق الأزمة: الخلاص نفسه تحوّل إلى سلعة. صكوك الغفران ارتبطت بتمويل كاتدرائية القديس بطرس والحملات العسكرية—including غفرانات عن الموتى (1476)—فصار الانطباع الشعبي: الغفران يُباع بالمال، والمال يعلو على الرعوية. [11]
• التسويق الشعبوي العدواني: يوهان تتسل مثّل ذروة الفساد الدعائي: “تجارة الغفران” تحولت إلى معاملة مالية صريحة لتخفيف المطهر، وهي الصورة التي استفزّت ضمير لوثر وأطلقت شرارة احتجاجه. [12]
ب) على مستوى الإكليروس المحلي والممارسة الرعوية
• السيمونية (بيع المناصب): استمرار بيع الكراسي والمناصب -رغم الحظر- حوّل الخدمة الكنسية إلى امتياز مالي. [13]
• تعدّد المناصب والغياب: جمع كاهن/أسقف أكثر من كرسي= رعايا بلا رعاية فعلية (Absenteeism) ومندوبين شكليين. [14]
• ضعف التأهيل وتنامي معاداة الإكليروس: مصادر عدة تشكو وعظًا فقيرًا وممارسات شعبية “خُرافية”. ومع تمدّد المدن والتعليم تصاعدت موجات معاداة الإكليروس حضريًا. [15] [16]
جـ) فشل الإصلاح المؤسسي قبل لوثر
• مجمع كونستانس (1414–1418): أنهى الانشقاق اسميًا وأدان چان هوس حتى الحرق، لكن الإصلاح الأخلاقي البنيوي بقي محدودًا. [17]
• مجمع لاتيران الخامس (1512–1517): أقرّ إجراءات ضد السيمونية وتعدّد المناصب، لكن التنفيذ كان باهتًا، والرقابة على الوعظ اشتغلت أكثر مما اشتغل الإصلاح الحقيقي. [18]
د) أصوات ما قبل الإصلاح + محركات الثقافة والسياسة
• جون ويكليف (إنجلترا): نقد ثروة الإكليروس، دعا لترجمة الكتاب والوعظ للشعب— “الإنجيل للشعب” قبل قرن من لوثر. [19]
• يان هوس (بوهيميا): واجه بيع الغفران مباشرةً ودفع حياته ثمنًا؛ رسّخ أن الأزمة حقيقية لا “نفسية فرد”. [20]
• إيراسموس والإنسانية: العودة للنصوص اليونانية/العبرية وتصحيح التدين المبالغ فيه—فيلولوجيا خدمت مطالب الإصلاح. [21]
• بنية الإمبراطورية الرومانية المقدسة: الإطار السياسي الفضفاض أتاح للأمراء حماية النقاش الإصلاحي بدل تصفيته—وهو عنصر حاسم في عدم تكرار سيناريو هوس مع لوثر. [22]
هـ) مسار التدهور وتراكم الفساد قبل 1517
قراءات مؤرخين كبار تؤكّد إن تراكم: فساد بابوي/إداري، إنهاك رعوي، اتجار بالدين وصكوك الغفران كسلعة، وفشل مؤسسي -خلق استعدادًا اجتماعيًا- روحيًا لاستقبال أطروحات لوثر كحلٍّ ينتظر شرارة، لا كـ”تقلب نفساني” لشخص واحد. [23] [24] [25] [26]
الخلاصة:
لما ظهر لوثر كان واقف على ركام أزمة حقيقية موثّقة، لا على أريكة علاج نفسي. اختزال كل ده في “نفسية لوثر” = رجُل قشّ هش ولذيذ جدليًا… لكنه تاريخيًا ما يمشيش. [27] [28] [29] [30]
