كتابي المقدس، لماذا أنت لي مقدس؟
دعني أُجيبك، مع أني متيقّن أنك كنت تعلم مسبقًا:
أنت لم تكن لي مقدسًا حقًّا..!

كنت مقدسًا فقط لأنهم قالوا لي قديمًا وأنا صغير إنك هكذا.
كنت مقدسًا لأنهم اختاروا لي سيدًا، وقالوا: هذا كتابه وكلماته عندك.
كنت مقدسًا لأنهم أخبروني أنك تحكي قصته،
وأنّ فيك خلاصي- خلاصًا لم أكن أعلم ممَّ هو!
فأقنعوني أنّك مقدس. فصدقتهم، وصدقت نفسي حين صدقتهم.
ولهذا أصبحت لي مقدسًا اسمًا لا خبرة أو عشرةً.

وكنت، مثل كثيرين، دفعني ضعفي وجهلي لأزداد قوة ومعرفة.
كنت وحيدًا وحولي كثيرون، ولم يكن أمامي سواك لأقرأك.
ربما دفعتني أحداث أخرى لقراءتك،
لكن أكثرها كان لأجل ذاتي وأنانيتها المستترة…
ولم أكن أدري: هل كنت أنا من يقترب، أم أنت من تجتذبني إليك؟
رُغِّبت ودُفِعتُ، وأحيانًا دفعتُ نفسي لأقرأك، فلم أفهمك.
فنصحوني أن أقرأ لمن سبقوني في دربك، الذين قرأوك وقيل إنهم فهموك.

قالوا لي: «أنت لازلت صغيرًا، لم تنضج بعد.
اقرأ، حتى لو لم تفهم، فقراءتك اليومية ستغسلك دون أن تدري».
فصدقتهم، وقرأت كما أرشدوني.
أردت أن أقرأك لنفسي، لأجد راحة وتسكينًا لمشاعر الذنب والتقصير والفشل والخزي.
لكنّي كنت أتعامل معك ككتاب مواعيد ووعود،
أبحث فيه عما يناسبني، لا عما يُشكِّلني على صورتك.
قرأتك ولم أدعك تقرأني كما ينبغي. خدرت نفسي بك، ولم أتركك تدخل أعماقي لتبرئني.
لأن من أعطوك لي لم يعلموني كيف أجعلك تقرأني وأنا أقرأك.
ولم يُخبروني أن الكلمة لا تُفهَم بالذكاء ولا بالتكرار، بل حين يفتحها الروح لمن يطلبه.

لكن كلما جلست معك وحدي في هدوء، ازداد اضطرابي وحيرتي.
كنت أراك تريد أن تكلّمني وتدخل بي إلى أعماق تحتاج فحصًا،
إلى غرف مظلمة مكدَّسة بالفساد والتشوه والاحتياج، لتُنيرها وتعمل بروحك فيها.
لكنني كنت أتململ سريعًا، وأهرب إلى السطح حيث الراحة المؤقتة،
رافضًا الدخول إلى العمق الذي دعوتني إليه.
كل اضطرابي لم يكن لأنك صامت، بل لأن كلمتك كانت كالسيف،
تفحص وتوبخ وتكشف أعماقي [1].
كنت تتحدث، وأنا أقرأ دون أن أسمعك؛
أحرفك واضحة، لكنّها مُغطاة بحجاب.
وأدركت أن ما بدا لي حجابًا لم يكن إلا عينيَّ المغلقتين،
لأن كلمتك حية وفعالة، لا جامدة كما ظننت.

ظننت أنك تسد أبوابك في وجهي،
بينما في الحقيقة كنت فاتحًا ذراعيك لي.
لكنني، كعادتي، لم أحتمل الانتظار طويلًا…
فمللت منك ورحلت.

رحلت، وفتشت عند آخرين في كتب أخرى،
علي أجد عندهم أو فيها ما يُسلي أو يُلهي،
أو يُفرِّح نفسي ويُريحني من تعبي وحيرتي.
رحلت لعلي أجد فهمًا بدل جهلي،
أو حريةً من قيود شهواتي وعاداتي،
أو أذنًا تُصغي لي في وقت أنيني.

رحلت، وكنت أعود إليك فقط خائفًا في لحظات الخزي والذنب،
حين كان وجع نفسي وأنا بعيد عنك يخنق فيَّ فرح الحياة وسط إخوتي،
ويحجب عني طعامًا وشرابًا—وأنا وسطهم—كان لذتي.

عندها كنت ألجأ إليك، فأجد فيك راحة… لا أعلم:
أهي راحة حقيقية، أم مجرد تسكين ومُخدِّر، أم كلاهما معًا؟
قليلًا قليلًا، صارت القراءة بعيدًا عنك فخًّا.
كلما ازددت معرفة، ازددت غمًّا وحزنًا.
وكلما ازدادت معلوماتي، انتفخ كبريائي أكثر.
امتلأت ذهنيًّا، لكن جفّت روحي؛
ظننت أني أعرف، بينما كنت أغرق أكثر في الجهل والتيه.
وكلما قرأت فيك أو في غيرك، لم أرض ولم أشبع.

أدركت أن الحياة لا نحياها بمجرد معلومات؛
وكل معرفة بلا حياة كانت فخًّا يبتلعني.
أتذكر مرةً لا أنساها ما حييت، من تلك اللحظات التي كنت ألجأ إليك فيها.
كنت صغيرًا، والاضطراب يشتعل من حولي، والنار ذاتها تلتهم داخلي.
سجدت منطرحًا أمامك، ثم أسندت ظهري إلى الحائط وأنت في حضني.

رفعت صرختي إلى إلهي، ودموعي تنهمر على صفحاتك…
حتى اجتذبت نظري إلى عدد أمامي:
«قد سمعت صلاتك ورأيت دموعك، ها أنا أشفيك».
في تلك اللحظة غمرني سلامه،
وانغرس وعده بالشفاء في أعماقي كجذرٍ ثابت لا يُقتلع.
لم تكن كلماتك حروفًا جامدةً أمامي،
بل فتحها الروح لي وغرسها كحياةٍ في داخلي.

لم آخذها كتعويذةٍ أو مُخدِّر لواقعي،
بل كصوت شخصيٍّ من المسيح نفسه إليَّ.
فرحت نفسي وهدأت ناري الداخليّة،
سلامًا وفرحًا امتلأت واحتملت بهما الظروف التي لم تهدأ لسنين طويلة.
لكن الأيام دارت، ودرت أنا معها،
وانجذبت إلى السطح بملاهيه ومُحفِّزاته، التي جرت ذاتي وراءها.
تغربت، وبنيت بيت نفسي على مثال أصدقائي وأقراني،
وظننت أنك أنت من يبتعد عني.

إلى أن حاصرتني الظروف كعادتها،
ثمرة لاختياراتي أكثر منها اختيارات من حولي.
أطبقت عليَّ من الخارج حصارًا كاملًا.
عندها لم تعد نفسي قادرة أن تحتمل.
الموت التف حولي من كل ناحية،
حتى تمنيت الموت لنفسي.

هناك، لم أنطق إلا باسم مُخلصي، يسوع
الذي طالما قرأت عنه دون أن أتركه يسكن فيَّ،
ذاك الذي تبناني ورعاني منذ يوم مولدي،
وانتشلني من تيهي في الشوارع وأسكنني بيته.
وبدلًا من أن أقدم له قلبي، امتلكته أنا فشوهته…
لكنّه رغم ذلك سمعني واستجاب لصرختي،
ومد يده إليَّ، وانتشلني من عمق هاويتي.

فعدت!

عدت هذه المرة إلى نفسي. وقلت:
هأنذا ألتفت إلى مُخلّصي وفادي حياتي، عودةً لا رجوع بعدها، إلى الأبد.
عدت أجلس أمامك، ساجدًا عند قدمي من سعى ليجدني في متاهي.
عدت أجلس أمامك، ليس كما كنتُ في السابق؛ بل أنا فيه وهو فيَّ.
عدت أجلس أمامك، أسمعه منصتًا أكثر مما أطلب أن يسمعني.
عدت أجلس أمامك، وكلي ثقة أنه الوحيد الذي يفهمني، ويفهمني من أنا.
لم أعد أقترب منك كطالب معلومة، بل كعطشان يطلب حياة.

جلوسي صار خضوعًا؛ أترك كلمتك تفحصني وتكشفني بدل أن أهرب منها.
صرت أجلس وأنت بين يديَّ، بينما الحقيقة أني أنا بين يديك.
لم أعد أتأمل في كلماتك كما كنتُ قبلًا،
إذ كانت تأملاتي أسيرة ماضيَّ الآثم أو مستقبلي المجهول.
أما الآن فأنا حاضر أمامك، أحيا يومي كما هو، سائرًا خلفك ومعك.
أنت ساكن فيَّ، تقودني، تصنع فيَّ معجزتك، وتصنع بي معجزاتك.
كل مرة أنظر في كلمتك أجد نورًا جديدًا، فالروح يفتح عينيَّ لأراك.
ولم تعد الكلمة تدللني بوعود سريعة، بل ترشدني لوصيتك لأُحياها في واقعي.

صرت أحفظ ك، فإذا بالكلمة تأخذني معها إلى الداخل،
تدخل بي من عمق إلى عمق،
وهناك بدأت تنير أماكن مظلمة كنت أهرب منها،
وتزيح التراب عن روحي القابعة تحت أثقال ذنوب السنين.
بدأت ترمِّم ما تهدم، وتقوي ما ضعف، وتنعش ما جف.
لم تعد كلماتك مجرد حروف تقرأ، بل روحًا مُحييًا يعمل في روحي،
يفتح الأبواب المغلقة ويُنيرها ويخلق فيَّ مَلكوتًا يحيا فيه وأنا معه.
وهناك بطلت أُعاند… وصدقتك لما صدقته!

الآن أقول لك:
صرت لي مقدسًا، لا كما أخبروني قديمًا، بل كما اختبرتك أنا.
صرت لي مُقدّسًا، لأني حين عرفته واختبرته في تيهِ بريّتي،
وجدتك تحكي عنه بالتفصيل… فصدقتك.

صرت لي مقدسًا، لأني وجدت حكايتي كلَّها معه—ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا—مكتوبة فيك.
صرت لي مقدسًا، لأنك لم تكشف لي حكايته فقط،
بل كشفت حقيقتي أنا كما لم أعرفها من قبل.
وكأنه كتبها لأجلي بدقائقها وحفظها عندك،
بينما كنت أكتبها أنا وحدي، وأنا لم أكن وحدي.
صدقتك ووثقت بكل ما فيك عني وعنه، لأني رأيته حين اختبرني.
أخبرتني بحقيقة موتي وفسادي،
وبحقيقة من أنقذني وأعطاني حياته.

هناك صرت لي مقدسًا.
ها قد صرت لي مقدسًا… لشخصي.
فتحتَ أمامي أبوابك التي كنت أظنها مغلقة،
بينما الحقيقة أن عينيَّ كانتا هما المغلقتين عنك.
صرتَ لي مقدسًا لأنّك لم تعد نصوصًا جامدة، بل حياةً تُعاش.
صرت لي مقدسًا لأنك كلّما فتحتك انفتح لي المسيح، وكلما قرأتك سمعت صوته.
صرت لي مقدسًا لأنك نافذةٌ يفتحها لي الروح،
ليغرس فيَّ حياةَ الابن، ويأخذني من عمق إلى عمق.

صرت لي مقدسًا لأنك المرآة التي كشفتني،
ثم أعلنت لي مخلصي من خطيّتي،
والجسر الذي به أعبر كلَّ يومٍ إلى حضن الآب.
ها أنا آتي مقرًّا معترفًا، ساجدًا ليسوع مخلصي،
الذي ناداني في قبري: «هَلُمَّ خارجًا!»
آتي بعينين مفتوحتين، بآذان مصغية،
وبقلب جديد يشتهي الامتلاء من روحه لملء قامته.
الآن لم تعد لغزًا أمامي. لقد صرت بحرًا أسبح فيه بروحي،
وكلما يفتحك الروح أمامي، يزداد كياني امتلاءً بالحياة،
والروح يكشف لي أسرارك كما يشاء، وقتما يشاء.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. رسالة بولس إلى العبرانيين 4: 12 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

أشرف سمير
Environmental Planning & Management Systems Specialist في Vodafone Egypt   [ + مقالات ]