لا أحبّ أن أدخل في سجالٍ مع أيّ شخص، وبالأخصّ إذا كان من كنيسةٍ رسوليّة شقيقة، مثل كنيسة المغاغيون الأرثوذكس، حتّى لا يُفهم الردّ على أنّه جدلٌ طائفيّ.
ولكن حين يُطلق الكلام المرسل، غير التاريخي وغير الأكاديمي، بحق قديس ومؤسس رهبنة كبرى في الكنيسة الكاثوليكية، مثل القديس فرنسيس الأسيزي، فمن الواجب أن يأتي التوضيح من المتخصصين.
لقد استمعتُ مؤخّرًا إلى محاضرة وجّه فيها نيافة الأنبا أغاثون، بدءًا من الدقيقة ١٩، اتّهامات متتابعة بأنّ القدّيس فرنسيس الأسيزي كان “ماسونيًّا” ومن “فرسان الهيكل”.
وبصفتي كاثوليكيًّا، أجد من واجبي أن أوضّح بعض الحقائق: فالقدّيس فرنسيس الأسيزي يُعدّ عند رهبنتنا، مع القدّيس دومنيك مؤسّس الدومنيكان، أبًا روحيًّا ومثالًا إنجيليًّا.
مفارقات تاريخيّة (آناكرونيزم)
الماسونيّة: تأسّس أوّل محفل ماسوني كبير في لندن سنة ١٧١٧، أي بعد وفاة فرنسيس بأكثر من خمسة قرون (فرنسيس عاش ١١٨١/١١٨٢–١٢٢٦). من ثمّ، نسبته إلى الماسونيّة خطأ تاريخي واضح [1].
فرسان الهيكل: صحيح أنّ فرسان الهيكل أُنشئوا عام ١١١٩ وقُمِعوا عام ١٣١٢، أي عاصروا حياة فرنسيس، لكنّه لم يكن فارسًا عسكريًّا ولا محاربًا، بل أسّس رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) على الفقر والتواضع والسلام. ولا يوجد أيّ مصدر موثوق يشير إلى انتمائه إليهم [2].
الوقائع الموثّقة: ما يثبته التاريخ أنّ فرنسيس عبّر فعلًا عن رغبته في الذهاب إلى دمياط سنة ١٢١٩ في قلب الحملة الصليبية الخامسة، ليلتقي السلطان الملك الكامل ويدخل معه في حوار سلام. هذا الموقف يناقض تمامًا صورة “الانخراط العسكري أو السرّي” [3].
فرنسيس وعلم اللاهوت البيئيّ
تكمن القيمة الحقيقية للقديس فرنسيس اليوم في كونه قدوة حيّة للاهوت البيئة [4]:
عام ١٩٧٩ أعلن البابا يوحنا بولس الثاني فرنسيس “شفيعًا للبيئة”، لما عُرف عنه من محبة واحترام للمخلوقات [5].
في “نشيد المخلوقات” خاطب عناصر الطبيعة كإخوة وأخوات، كاشفًا أنّ الخليقة بيتنا المشترك [6].
البابا فرنسيس استلهمه في الرسالة العامّة كُن مسبَّحًا (2015)، حيث طوّر مفهوم “الإيكولوجيا المتكاملة”، رابطًا بين رعاية الفقراء ورعاية الأرض [7].
صار القدّيس فرنسيس نموذجًا أساسيًّا للاهوت البيئة المعاصر، الذي يجمع بين النقد النبوي للتخريب البيئيّ، والنقد الذاتي لتواطؤ بعض المسيحيين، ويقدّم في الوقت نفسه شهادة إنجيلية أصيلة للحياة في بساطة وفرح وشركة مع الخليقة، وحمايتها لا تدميرها [8].
ختامًا: إذا كان من حقّ أيّ راعٍ أن يعظ بما يشاء، فمن الواجب حين نتعرّض لسيرة قدّيس مثل فرنسيس الأسيزي بعد مرور ثمانية قرون على نياحته أن نلجأ إلى الإسنادات التاريخيّة. فالقول بأنّ فرنسيس الأسيزي “ماسوني” أو من “فرسان الهيكل” مغالطة تاريخيّة لا تصمد أمام أيّ بحث أكاديمي. أمّا الحقيقة فهي أنّ القديس فرنسيس الأسيزي عاش فقيرًا، محبًّا للسلام، وترك أثرًا عميقًا في الروحانيّة المسيحيّة، وصار أيقونة عالميّة في مجال لاهوت البيئة، الذي يذكّرنا بأنّ الإيمان المسيحي لا ينفصل عن مسؤوليّتنا في الحفاظ على الأرض، لأنّ دمار البيئة هو دمار للإنسان.
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس