المصريون -والأقباط خاصةً- يتم استقطابهم حاليًا تجاه أجندتين لا ناقة لهم فيهما ولا جمل. الأولى الأجندة الصهيونية والأخرى أجندة الإسلام السياسي.
لكن، هل يمكن ألا نختار هذا أو ذاك؟ هل من حق الشخص أن يقول للإثنين “لا”، ويرفض أن يتماهى معهما؟
هل يمكن أن يكون لديه موقف أصيل لا يُحابي ولا يُجامل ولا يُستَغَل فيه؟ هل يمكن رفض الظلم الواقع في غزة -بصراحة وبدون إقحام الميلشييات، ومعاداة الدولة، ومعاداة المدنية- وهل يمكن المطالبة بالعدالة للنفس ولبقية الأقليات دون إعادة إنتاج سرديات العهد القديم والتماهي مع طرف يحتقر ويستغل صاحبه، وهو في عداء صريح مع بلده؟
هل يمكن أن يكون هناك صوت قبطي غير مدفوع بالخوف من الضغط الاجتماعي والرغبة في استجداء تعاطف جميع الأطراف؟ هل من حق المصري/القبطي إنتاج براجماتيته الخاصة دون أن يتخلى عن أخلاقه ودون أن يتحول إلى أداة سهلة للحشد السياسي بأجندات لا تخصه فكريًا أو تاريخيًا؟ هل يمكن أن يكون موقفه عادلًا وأخلاقيًا وفي نفس الوقت غير ساذج ولا مُسَيَّس؟ هل ممكن أن يكون ضد كل أنواع العنف المُسوَّغ بأجندات دينية وعرقية على حد سواء؟
كل الإجابات أشبه بالمشي على حبلٍ رفيع جدًا، ولكنها ممكنة.
في تصوري، أن معالجات كثيرة تخص الموقف المسيحي القبطي من القضية الفلسطينية تُغفل شيئًا مهمًا، وهو أن “القبطي” غير قادر على الانتماء بشكل حقيقي لأي تيار/عِرق/أيديولوجيا حوله. فهو يشارك اليهودي كتابه -العهد القديم- ولكنه لا يتفق مع تفسيره الذي يُقصي “مسيحه”، ويشارك المسلم الأرض، لكن يفصلهم إرث وعبء تاريخي وتراثي من التنكيل السياسي والديني لا يمكن تجاوزه من الطرفين. ولكونه “قبطيًا”، فالعروبة بالنسبة له مُصطلح “مخنوق بتعريفه” بعبارة چاك دريدا، بمجرد أن يعرّف القبطي انتماءه لـ”مصر”، لا يعود مفهوم معناه محصورًا في العروبة.
إثنيًا ليس له عِرق حصري خاص به، ووسط الأرثوذكس هو قريب غريب أو آخر مُنتَحل، ووسط الكاثوليك يواجه مرة أخرى الاختناق بالتعريف، فهو محلي لا خلقيدوني يحتسب نفسه على الأرثوذكسية في مقابل كنيسة اسمًا وتاريخًا وجغرافيًا هي كنيسة عالمية جامعة، لا تنحصر في لغة كَنَسيّة ولا جماعة آباء ولا أرض. مع البروتستانتي يشترك في أغلب النص ويختلف معه في كيفية قراءته، وإن لم يستثمر تعليميًا في صياغة مناط الاختلاف ومنهجيته. القبطي لا يستطيع أن يكون منتميًا لأحد، ويمكن من هنا فهم اسم دراسة إدوارد واكين بعنوان “A Lonely Minority”، فهو تعريفًا ووصفًا منتمٍ لمصر، ولكنيسة مصر، ولتاريخ مصر، وللظرف التاريخي لمصر [1].
عندما تحاول استقطابه لسؤال خارج حدود “هويته”، سيتعاطف معك أخلاقيًا، ويجاوبك برؤيته، لكنه لن يتماهى مع أطروحتك فيما يخص الـ worldview الخاصة بك، لأنه ليس لديه نفس الإسخاتولوچيا، وليس لديه تصور أخروي عن صراع أرضي ما بين عرقين، وليس لديه تصور عن هيكل يحتاج أن يتبنى، وليس لديه تصور عن وسيلة لتسريع مجيء النهاية، وليس لديه تصور عن فئة ستبيد الأخرى، ولا هو مطلوب منه أن يحشد سياسيًا لواحدة منهم. ليست لديه امتدادات خارج مجتمعه المحلي الملتصق بتعريفه.
الإشكال الذي جَدَّ على المجتمع القبطي، وبعض تجلياته بانت في السؤال الفلسطيني هو: ماذا سيحدث حينما يتحول الأقباط إلى إثنية مسيحية لها امتدادات خارج مصر، وعندها القدرة على التنظير السياسي من منظور قبطي “غير مصري”؟
هذا سؤال خطير ويحتاج دراسة حقيقية.