منذ مقتل الناشط الأمريكي تشارلي كيرك، دار جدلٌ حادّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليس في أمريكا فقط بل في مختلف دول العالم، وجزء منه دار هنا في مصر. يتناقش فريقان: فريق يرى أن تشارلي عبر عن مخاوفه باعتباره ناشطًا يمينيًا مسيحيًا محافظًا يقف في وجه مجتمع الميم والإجهاض ويدعو للزواج التقليدي بين رجل وامرأة والحفاظ على قوام الأسرة التقليدي، وفريق يرى فيه ناشطًا يمينيًا متطرفًا وعنصريًا ضد قيم الحرية والديمقراطية. وقد تبرأ كل فريق من القاتل تايلر روبنسون، وبين الفريقين يزداد الاستقطاب وتتسع الهوة، ولا توجد مساحة وسط يلتقي فيها المختلفون.
تُعرف الفضيلة بأنها وسط بين رذيلتين، فالشجاعة هي وسط بين الجبن والتهور. ويشار إلى أن المجتمعات التي تتمتع بالحيوية هي التي تزيد فيها مساحة الطبقة الوسطى عن الطبقات الأعلى أو الدنيا. فكلما قلت الهوة وزادت مساحة الوسط، كان أفضل. والآن يغيب التفاهم وتتقلص مساحة الأرضية المشتركة، ونتجه نحو التخندق في طرفين بعيدين كل البعد عن بعضهما البعض. وأتعجب كيف لم يستطع البشر الحفاظ على ما تم إقراره بعد الحرب العالمية الثانية من آليات للحوار وحل المشكلات، ونتجه الآن بسرعة الصاروخ لزيادة مساحة التوتر وارتفاع وتيرة الحروب بين الدول المختلفة، وضعف المنظومة التي تجمع دول العالم المختلفة.
فالنفس البسيط الذي استنشقته الدول المتحاربة في الأربعينيات من القرن الماضي، نتج عنه تنمية وتقدم جعلت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الجنوبية، وغيرها من الدول نماذج للتقدم، وأصبحت محط أنظار شعوب كثيرة تسعى للسفر والهجرة إليها، مع ترسيخ العلمانية والمواطنة ومبدأ سيادة القانون كطريقة تنظم بها الدول حياة مواطنيها، وتمنحهم حقوقهم.
كانت ذروة هذا النظام في فترة التسعينيات وبداية الألفية، إلا أنه مع عام 2008، وبداية أزمة اقتصادية عالمية جديدة، ثم التطور السريع في وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وانتشار موجات الاحتجاجات والمظاهرات فيما سُمي بـ”الربيع العربي” نهاية عام 2010، وسقوط بعض الدول في الفوضى والحروب الأهلية مثل سوريا وليبيا واليمن، وهجرة كثيرين من تلك الدول إلى أوروبا، وكثيرين من دول أمريكا اللاتينية إلى أمريكا، وتغير التركيبة الديموغرافية لسكان تلك الدول، بدأت تظهر مشكلات داخل تلك الدول، جعلت تياراتها السياسية بين اليمين واليسار كل منها يتجه لأقصى طرفه، وبدأت تؤثر على دول أخرى.
حالة الاستقطاب الحالية أصبحت بمثابة عدوى في أغلب مجتمعات العالم، ولأن العالم أصبح منفتحًا على بعضه بشكل كبير، فما يحدث في دولة ما يؤثر على بقية الدول. مثال ذلك الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022 والمستمرة حتى الآن، والحرب الإسرائيلية على غزة بعد هجوم حماس وأسر مدنيين إسرائيليين يوم 7 أكتوبر 2023. أصبح الموقف من هذه الحرب أرضًا خصبة للاستقطاب بين مؤيدي كل طرف، ووصل الموضوع إلى حد العنف في بعض الدول، وصار هناك كثيرون مناصرون لكل فريق من منطلق ديني، وقليلون هم الذين يركزون على البشر الأبرياء والمدنيين الذين تعرضوا للضرر، سواء من الرهائن المدنيين الإسرائيليين أو من سكان غزة العزل الذين قتل منهم عشرات الآلاف بجريرة حركة حماس.
واليوم، بعد مقتل تشارلي كيرك، يزداد الاستقطاب حدّة مرة أخرى في أغلب النقاشات التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي. فبين من يرونه شهيدًا وقديسًا، ومن يرونه عنصريًا متطرفًا، نشبت نزاعات واختفى معها أي تقييم موضوعي لتشارلي وأفكاره، فقط استقطاب حاد. ولم يعد هناك من يقفون في المنتصف، يقيمون كل حدث على حدة، بل صار هناك قوالب جامدة، وتصورات مسبقة يتحرك الناس من خلالها لتقييم الأحداث، فتختفي الموضوعية.
تأكلت المساحة الوسطى، وبدأ كثيرون في الذهاب للتخندق تجاه كل اتجاه يعبر عن مصالحه وأفكاره. فلم يعد هناك يمين محافظ، ووسط، ويسار ليبرالي، بل يمين متطرف ويسار متطرف. العنف والقتال هما اللغة السائدة الآن بدلًا من الحوار والتفاوض، ليس فقط على مستوى الدول والحكومات، بل بين الشعوب وداخل الشعب الواحد. وهذه الحالة مثيرة للقلق وتدعو للتمسك بزيادة رقعة المساحة الوسطى، ومحاولة العقلاء العودة للتأثير وسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين. وإلا فإن هذا الكوكب سينزلق بصورة أسوأ إلى ما كان عليه وقت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وربما هذه المرة يصل العنف إلى مستويات لا يمكن إيقافها، قد تدمر مستقبل البشرية ومستقبل بقية الكائنات على الكوكب، الذي يحتاج مجهودًا منا للتكاتف من أجل قضايا المناخ والبيئة وتدهور حالتهما بسبب نشاط الإنسان الأناني.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.