انتشرت أخبار احتفاء عددٍ من الكنائس القبطية الأرثوذكسية بموت المجرم المدان بالاعتداء الجنسي على الطفلة سالي زخاري بعمر 11 سنة، عام 1997 وغيرها من الحالات، الذي تم تجريده من رتبته الكهنوتية بعد مماطلة استمرت لسنوات عدة بدأت منذ عهد البطريرك السابق الأنبا شنودة الثالث، في محاولة حثيثة للتستر على جرائمه المتكررة، حيث جاءت الإعلانات عن وفاته على صفحات المركز الثقافي القبطي وغيرها، من صفحات الكنائس وهي تعطيه صفته الكهنوتية؟!! فأثارت معها كثير من الجدل لن أخوض في كل جوانبه، فأنا أؤمن أن "الحي أبقى من المَيْت".
وهنا أود إلقاء الضوء على ظاهرة متكررة عندما نتحدث عن أي عوار موجود في مجتمعنا الكنسي، فيباغتنا المواطن القبطي الأسمر التقليدي الجميل باستخدام المثل الدارج بين شعوب المنطقة: “بلاش ننشر غسيلنا الوسخ“. وهذا المواطن حقًا هو شخص حسن النية جدًا، ولا يدافع عن المجرم، لكنه كما تربى ونشأ وترعرع يهتم كثيرًا بالمظهر، فيتجاهل الجوهر والحقيقة فيما يسمى بفلسفة “الكنس تحت السَّجادة“. ونحن هنا بصدد فرد مساحة لتوضيح كيف أن نيته الحسنة تؤذي أكثر مما تنجي.
الجريمة.. ماهيتها؟
تتخذ كل من المدارس الوضعية والكلاسيكية رؤية إجماعية للجريمة: إن الجريمة هي فعل ينتهك القيم والمعتقدات الأساسية للمجتمع، هذه القيم والمعتقدات تتجلى كقوانين يوافق عليها المجتمع.(ويكيبيديا العربية)
وفقًا لما سبق، فإن الجريمة يتم تحديدها وتعريفها بواسطة عين المجتمع، فلا يمكن تجريم أي فعل إلا عندما يرفضه المجتمع ويجرمه. فالجريمة فعل يهين ويهدد المجتمع، وهذه الأفعال يجب أن يُعاقب عليها. وهذا هو الأساس الذي بنيت عليه فلسفة القانون والعقوبات التي تهدف إلى توقف الجريمة المهددة للمجتمع.
يمكن تقسيم الجرائم إلى ثلاثة أقسام رئيسية:-
جرائم ضد أشخاص (قتل، سرقة، اغتصاب، تحرش، سب وقذف… الخ)
جرائم ضد ممتلكات أو مؤسسات (السطو المسلح، الحرق… الخ)
جرائم بلا ضحايا (تعاطي المخدرات، الدعارة، المقامرة… الخ)
تطور فلسفة العقاب
يرجع تاريخ العقاب على الجرائم إلى بدايات تطور الإنسان. فبدأ كانتقام فردي ضد أي فرد يتسبب بعمل ضار للجماعة أو أحد أفرادها، وتختلف العقوبة في حالة كون المجرم جزء من الجماعة عن لو كان خارجًا عنها. ثم وبظهور المدنية وصلت الفلسفة العقابية لما نعرفه باسم (العين بالعين والسن بالسن) في قوانين حمورابي. التي تظهر أصدائها في الكتاب المقدس وكذلك القرآن الكريم.
تطورت فلسفة العقاب فيما بعد من الانتقام وإرضاء الآلهة إلى الردع متأثرة بالفلسفة الإغريقية، فالجريمة ليست إساءة للآلهة فقط ولكنها مهددة للمجتمع وللاستقرار السياسي. وعلى هذا الأساس فقد نادى أفلاطون بمبدأ شخصية العقوبة، وأن يكون من بين أهداف العقوبة الردع على أمل تجنيب المجتمع شرور الجريمة في المستقبل. وهي ذات المبادئ التي نادى بها أرسطو محاولًا جعل غرض إصلاح الجاني من بين أهداف الجزاء الجنائي إلى جانب الردع كوظيفة أساسية. أي إن العقوبة استُهدف بها تحقيق أمرين هما الردع والإصلاح.
كما كان للكنيسة فيما بعد الفضل في المناداة بالمساواة بين الجميع في الجريمة فلا فرق بين جريمة أحد العبيد أو أحد النبلاء، وأضافت نَّظْرَة أخرى للعقوبة كنوع من التكفير عن الذنب.
الفلسفة الحديثة في العقاب لم تعد تركز على المجرم فقط وتوقيع العقاب عليه، فمعاقبة المجرم لم تعد الهدف الأساسي، إنما ضرورة التركيز على الجريمة وكيفية الحيلولة دون وقوعها.. المهم ليس توقيع العقوبة على المجرم فهذا أصلًا وارد طبقًا للقانون، إنما الأهم هو كيف يتم منع الجريمة أو عدم تكرارها، فاقتلاع الجريمة من جذورها مسألة بالغة الأهمية، أما التركيز فقط على المجرم وحده فهذا غير كافٍ. نحن بحاجة شديدة إلى ضرورة منع وقوع الجريمة.(المستشار بهاء الدين أبوشقة “فلسفة العقاب الحديث” موقع حزب الوفد)
الإعلام.. دوره
لوسائل الإعلام دور مهم في التأثير على رؤية المجتمع للجريمة، فهي تؤثر على الصورة الذهنية للوعي الجمعي للمجتمع في مواجهة الجريمة ورفضها. وتطور التشريع عبر الزمن تأثر تأثرًا بالغًا بدور وسائل الإعلام، ويكفي النظر إلى بعض الأفلام المصرية التي أدت إلى تغيير في بعض مواد التشريع كمثال، أو تحول بعض القضايا إلى ما يسمى قضايا الرأي العام فيصبح تأثيرها مختلفًا.
بناءًا على كل ما سبق، يقع على عاتق المجتمع الكنسي القبطي مسئولية تجريم ورفض تلك الأفعال (التي هي مجرمة قانونيًا وإنسانيًا) ووضع قانون رادع حاسم يمنع تكرار مثل هذه الجرائم وانتشارها واستفحالها، ورفع الحصانة عن مرتدي الزي الكهنوتي وكسر صنم تقديسهم وتنزيههم، نحتاج وجود قانون وآليات تضمن أن الضحايا يتم الاستماع لهم دون تهديدٍ أو ابتزازٍ.
المجتمع المسيحي كله مدان لعدم إعلانه رفض وتجريم كل هذا وبوضوح، الحل في الاعتراف بالمشكلة أولا، والنشر ومواجهة تلك الجرائم وليس التصالح معها تحت مظلة تفسيرات مخلة شيطانية لكلمات مقدسة. أو حتى تحت خسة “بلاش ننشر غسيلنا الوسخ“. فالعيب ليس في “نشر الغسيل” تحت نور الشمس لتطهيره، بل في التمسك بالقذارة وعدم السعي لتنظيفها، هذا الغسيل الذي اتسخ بسبب نهج معين لتعاطي المشاكل، لا يمكن تنظيفه باستخدام نفس النهج والعقلية. وإن غسلت غسيلك: ستتباهى بنشره.
اقرأ أيضًا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟