تمثل المحاكمات الكنسية واحدة من الإشكاليات المزمنة المُرَحَلّة، التي شهدت واحدة من ذُراها، عقب خروج قداسة البابا شنودة الثالث من منفاه الاختياري “دير الأنبا بيشوي”، كواحدة من تداعيات القرار الرئاسي الذي أصدره الرئيس الأسبق أنور السادات، ضمن حزمة قرارات عنيفة، أعلنها في خطابه الأخير 5 سبتمبر 1981، بإلغاء قرار اعتماد الدولة لنتيجة انتخابه بابا وبطريرك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومن ثم قرار تعينه، لم تسمح ذاكرة البابا القوية له أن ينسى مواقف عديد من رموز الكنيسة خاصة في دائرة الكهنوت التي لم تَرُق له، وهو الذي قال يومًا؛ أستطيع أن أغفر لكن لا أستطيع أن أنسى
.
بدأ قداسته مرحلة ما بعد العودة بانتخاب سكرتير جديد لمجمع الأساقفة، وهو انتخاب بنكهة التعيين، ليتركه رفيق زمن خدمة مدارس الأحد الذي حين قصد الرهبنة اختار أن يكون اسمه الرهباني شنودة السرياني، ورسمه قداسته أسقفًا على إيبارشية الغربية باسم الأنبا يوأنس، لكنه لم ينس له قبوله عضوية اللجنة الخماسية التي شكلها السادات، لتدير شؤون الكنيسة بعد قرار عزله. ليتولى الموقع بعده الأنبا بيشوي مطران دمياط، ليصبح عين ويد البابا في الكنيسة، ورَجُله الحديدي، وأسند إليه مهمة محاكمة الكهنة المحالين للتحقيق بتعدد الأسباب، ومعه تشهد الكنيسة سلسلة من المحاكمات التي تنتهي بإحالة الكاهن للتقاعد، أو عزله من رتبة الكهنوت، في محاكمات تفتقر لأبسط قواعد العدالة التي تتيح للمُقدم إليها إبداء دفوعه وتفتقر للعلنية، وفيها يوقع المُقدم إليها إقرارًا سابق الإعداد بصحة ما هو منسوب إليه مع وعد بعودته لخدمته، وفي واحدة من تصريحات أسقف المحاكمات قال تندرًا بيسموني بيشّوي، من الشواء
وأعقب وصفه بضحكات مقدسة.!!
قدرًا يرحل البابا ويرحل أسقف المحاكمات ويرحل كثيرون من ضحايا المحاكمات، وتجري في النهر مياه كثيرة، وتشهد الكنيسة مرحلة هدوء مشوبة بالحذر، فمَا زالت جذوة نيران عديدة تحت الرماد لم تنطفئ بعد، وتبقى المحاكمات الكنسية على وضعها بغير أطر قانونية، ويظل الأمر مرتهنًا بقناعات البابا.
نعود لنجد أنفسنا أمام نفس الأسئلة التي طرحت قبلًا، عن ماهية المحاكمات الكنسية وأطرها ودرجاتها التي تضمن توفر أقصى حدود العدالة، وضوابطها، بين صلاحيات من يقوم عليها وحماية المقدمين إليها من عسف استخدام السلطة.
اللافت أن كنيستنا حتى اللحظة لم تقترب من منظومة المحاكمات هذه بتقنينها ووضع قانون ينظمها ويضبط إيقاعها عبر مواد قانونية عامة ومجردة وملزمة، تخاطب أطرافها، المحقق والقاضي والشهود والمقدم إليها، وتحقق العدالة في الإطار الكنسي، رغم أن أدبيات الكنيسة، بتدرجها، من الكتاب المقدس إلى ما استقر من قوانين الرسل إلى قوانين المجامع المسكونية، إلى قوانين الآباء المعتبرين أعمدة، تناولت هذا الأمر وصارت مرجعيات ملزمة، ولكنها لم تترجم في عمل قانوني معاصر كما فعلت بقية الكنائس التقليدية، وتُرك الأمر لتقدير الأب الأسقف وربما بأكثر تحديدًا تترك لتقدير البابا البطريك.
وقد شهدت تلك السنوات التي تفجرت فيها أزمة المحاكمات الكنسية محاولات جادة، خارج منظومة الإكليروس، للاقتراب المنهجي والموضوعي، تبلورت في سلسلة المؤتمرات العامة التي عقدها التيار العلماني القبطي (2006 ـ 2010)، التي تضمنت ضمن أطروحاتها بحوثًا تناولت تقنين المحاكمات الكنسية، وقدمت للكنيسة في حبرية قداسة البابا شنودة الثالث، مشروع قانون ينظمها، عكف على إعداده وصياغته المستشار لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة، وأعيد تقديمه لقداسة البابا تواضروس عقب إعلان اختياره ضمن ملف كامل عن رؤية التيار العلماني في الإشكاليات الكنسية وقتها، فضلًا عن دراسة مستفيضة وموثقة قدمها أحد الآباء الرهبان الباحثين في المؤتمر العلماني القبطي الأول (نوفمبر 2006) بعنوان (التأديبات الكنسية في الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسي).
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحد من أهم الكتب التي تناولت بتدقيق وتوثيق أهم المحاور التدبيرية الكنسية ومنها “القضاء الكنسي”، وهو كتاب (التدبير الإلهي في بنيان الكنيسة) ديسمبر 2001، إعداد أحد رهبان برية القديس مقاريوس. (حسب البيانات التي حملها غلاف الكتاب في طبعته التي في حيازتنا.)
يبقى أن نطرح تصور لما يجب أن تكون عليه المحاكمات (التأديبات) الكنسية فيما أشرنا إليه من وثائق، وهو موضوع الجزء الثاني من مقالنا.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨