التنمية عنصر أساسي للاستقرار والتطوُّر الإنساني والاجتماعي، وهي عملية تطوُّر شامل أو جزئي مستمر، وتتخذ أشكالًا مختلفة تهدف إلى الرقي بالوضع الإنساني إلى الرفاه والاستقرار والتطور بما يتوافق مع احتياجاته وإمكاناته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتعتبر وسيلة الإنسان وغايته [1].
والتنمية ليست لفظًا يُطلق من باب الوجاهة على بعض الأنشطة الاجتماعية ولكنها مطلب أفرزته الخبرات الإنسانية والعالمية. فبعد أن ساد مفهوم “التقدم” أو الانتقال الاجتماعي من وضع إلى وضع أفضل منه عندما تُكتشف إحدى قوانين الطبيعة، يتمكّن البشر من فرض مزيد من سيطرتهم على الطبيعة وتقدم المجتمع، لكن جاءت الحروب والأزمات والانهيار الاجتماعية وغيرها لتثبت احتمالية الانتكاس لحركة التقدّم.
من هنا كانت التنمية عنصرًا أساسيًا لاستقرار وتطور إنساني ومجتمعي، ثم أُضيف إليه مصطلح التنمية المُستدامة -أي التنمية القابلة للاستمرار- التي تحقِّق احتياجات الحاضر دون أن تهدر قدرة الأجيال القادمة على تحقيق احتياجاتها. [2]
الأساس اللاهوتي والكتابي للتربية الشعبية
مَثَل لرؤية لاهوتية ودفع عملية التنمية: للراحل الدكتور القس؛ صموئيل حبيب، رؤية لاهوتية فيما يختص بلاهوت التنمية التي سجَّلها عام 1979، ولا شك أننا للآن ما زلنا في أشد الاحتياج لإجراء تنمية شاملة.
تقوم رؤية د. صموئيل حبيب على عدة أسس: أن الله خلق الإنسان على صورته، وأن دعوة الله تشمل التحرير من خطايا الفرد والمجتمع على السواء، وهي التزام مسيحي ينبع من عدم رضى الله على مذلّة شعبه. ثم أن تجسُّد السيد المسيح دعوة للإنسانية الحقَّة وإظهار لاهتمام الله بالإنسان وإعلان حبه له ورغبته الصادقة في استرداد الإنسان لإنسانيته. وشعب الله مسؤول عن تفعيل التنمية الذاتية لأفراده ليكونوا على مستوى المسئولية لخدمة البيئة في كافة مجالات الحياة.
منظور العدالة الاجتماعية
العدالة في اللغة: تشكل العدالة معنى الحياد التام وعدم التحيُّز ويقوم على إعطاء كل ذي حق حقه وعدم الاعتداء على الآخرين، ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة.
• العَدالة الاجتماعيَّة: (الاقتصاد) نظام اقتصاديّ يعمل على إزالة الفروق الاقتصاديَّة الكبيرة بين طبقات المجتمع [3].
واستخدمت هذه الكلمة في الشريعة بمعنى:
• القواعد التي تقود وترشد الذين في موضع القضاء [4].
• أوصى بها الرب [5].
• وكانت الحقوق الإنسانية على قمة اهتمام يسوع المسيح.
• أما العدالة والأخلاق فهي مستوى أخلاقي لسلوك الإنسان [6].
العدالة الاجتماعية في العهد القديم
تقدِّم أسفار العهد القديم منظورًا للعدالة الاجتماعية (مثال إشعياء- حبقوق- ملاخي – ميخا وغيرها). وسفر عاموس كمثال فيما يختص بموضوع الدراسة:
نجح عاموس في رسم صورة لمجتمع كامل، فسفر عاموس لا يتكلم عن خطايا فردية بل هو يوجه رسالته لصفوة المجتمع والمسؤولين فيه.
كما يتضح من السفر أن حالة المجتمع كانت حالة ازدهار ورخاء وتحقيق تقدم اقتصادي وسياسي واجتماعي، إلا أنه في نفس الوقت يفتقد التماسك وتضعف قيمه، وهو باختصار مجتمع يشهد تغيرا وما يصحب المتغيرات عادة من آثار تكون بعضها آثار سلبية، فإسرائيل، ولا سيما قادتها السياسيين والاقتصاديين والدينيين البارزين، يعتبرون مسؤولين عن ذلك. فقائمة جرائمهم يمكن أن تملأ سجل شرطة من حجم كبير غير اعتيادي: كانوا يستعبدون مواطنيهم من أجل أتفه الديون [7]، كانوا يعوجون القضاء بالنسبة للمساكين والمحرومين [8]، ويرتكبون الفحشاء [9]، ويجبون ضرائب باهظة للغاية [10] ويضيقون الخناق على الأنبياء الذين يشجبون مثل هذه المفاسد [11]، ويعيشون عيشة البذخ والترف على حساب الفقراء (4: 1، 6: 1-6)، تملكهم الغرور والكبرياء بالنسبة للميزات التي يوفرها لهم العهد في الوقت الذي يتجاهلون فيه رعاية الله واهتمامه بالأمم الأخرى [12] وفي إصحاح 8 يتكلم عاموس عن تذكر الله لخطيئة ظلم الفقراء [13].
أما على مستوى “العلة الأخلاقية”، فالدينونة تأتي كنتيجة مناسبة لمسلك إسرائيل الشرير: فعنفهم تجاه الآخرين، يؤدي إلى استخدام العنف ضدهم [14]، ورفضهم لكلمة الله التي أُرسلت لهم على لسان النبي [15] نتج عنه جوع لكلمة الله بطول البلاد وعرضها [16].
ويؤسس عاموس الدينونة الإلهية على تمرد إسرائيل من الناحيتين الاجتماعية والدينية، على سيادة الله على جميع مناحي الحياة في السماوات وعلى الأرض. وأشار أيضًا إلى تقاليد العهد الذي قطعه الله مع شعبه أنا أكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبا
وبناء على العهد يسلك الشعب طبقا لبنود العهد.
إقرار العدالة الاجتماعية يعني إقرار الإنسانية
يرى د. حبيب أن إقرار العدالة الاجتماعية أمر لازم لإقرار إنسانية الإنسان، فالكتاب المقدس يضع العدالة أساس للعلاقات الإنسانية، والمسيحيون مدعوون للمطالبة بإعادة النظر في أوضاع النظم الاجتماعية التي تقوم على أسس الظلم الاجتماعي وإحلال نظم اجتماعية ينمو فيها البر والعدل والحق
إنهم في الباب يبغضون المنذر، ويكرهون المتكلم بالصدق. لذلك من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هدية قمح، بنيتم بيوتا من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كروما شهية ولا تشربون خمرها. لأني علمت أن ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة أيها المضايقون البار، الآخذون الرشوة، الصادون البائسين في الباب. لذلك يصمت العاقل في ذلك الزمان لأنه زمان رديء. اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا، فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم. ابغضوا الشر، وأحبوا الخير، وثبتوا الحق في الباب، لعل الرب إله الجنود يتراءف على بقية يوسف. لذلك هكذا قال السيد الرب إله الجنود: «في جميع الأسواق نحيب، وفي جميع الأزقة يقولون: آه! آه! ويدعون الفلاح إلى النوح، وجميع عارفي الرثاء للندب. وفي جميع الكروم ندب، لأني أعبر في وسطك، قال الرب».(سفر عاموس 5: 17-10)
ويقول د. حبيب: يسوع وراء القيم الاجتماعية والخُلقية للتقوى الفردية والجماعية. لتاريخ المقدس جانبًا دينيًا يقدم الفهم المسيحي عن الله والعالم والنفس سواء من ناحية القيم أو الفهم المسيحي، وكلاهما له علاقة بحقيقة الفداء حيث ينتج علاقة فكرية مسيحية لتكوين مجتمع.
وعودة إلى باولو فريري حيث يرى أن التنمية مهدَّفة للتحرير، وأن التعليم هدفه أن يشعر المتعلم بواقعه فيتحرك ليقف على قدميه إنسانًا حرًا، وليس الهدف مناهج تعليمية لا تدفع للتحرير.
ولعل كل من يعمل في مجال التنمية في حاجة لاستيعاب هذا المفهوم، كما أنها حاجة برامج التنمية في الكنيسة المصرية التي في أغلب الأحوال تكتفي بمفهوم (إخوة الرب) الذي يقضي بالتعامل مع الطبقات الفقيرة بسداد إعوازها المادي، فلا تعلِّم الفقير الصيد بل تعطيه السمكة وكفى، والأدهى أن (إخوة الرب) يُخصص لهم ليس الاسم فقط بل وأماكن التواجد أيضا، فاجتماعاتهم مقتصرة عليهم والأصعب أن يتمدّد هذا المفهوم فيشمل كافة الاجتماعات الفرعية “أولاد أخوة الرب” (إعدادي- ثانوي).