المقال رقم 4 من 3 في سلسلة حكايتي مع دير أنبا مقار

ما حييت لن أنسى تلك الأيام البعيدة الدافئة التي عشتها في حضن كنيستي، الصغيرة نسبيًا من حيث المساحة المتسعة باتساع السماء في عطائها عبر خدام يجمعون بين البساطة والعمق والعطاء والحب، تقع في حي القللي، وهو حي له سماته الخاصة، يبدو كجزيرة مستقلة وسط أحياء شهيرة، شبرا والسبتية وجزيرة بدران وبولاق ووسط البلد. لكنه احتفظ لنفسه بطبيعة تميزه، ربما لتكوينه الديموغرافي، فغالبية قاطنيه قادمون من الصعيد، بحكم موقعه بالقرب من محطة مصر، محطة القطارات الرئيسية في العاصمة، وبالأكثر القطارات القادمة من الصعيد ـ الوجه القبلي من الجيزة لأسوان ـ أو ربما لوقوعه على مشارف الأسواق الشهيرة، السبتية، وكالة البلح، الفجالة، كلوت بك. حيث فرص العمل الأقرب والأوفر، وقتها، لذا كان سكانه، من جيل تلك الأيام من الكادحين الساعين ليضعوا أقدامهم في دائرة الطبقة الوسطى، فاختاروا في غالبيتهم التجارة عملًا، الأمر الذي انعكس على طبيعة العلاقات بينهم، وسيج حولهم بسياج القبول المتبادل حتى لتخالهم آنذاك عائلة واحدة، على اختلاف الثقافات والأديان.

في هذه الكنيسة تشكل وجداننا، في مناخ عام، كانت الكنيسة فيه أحد روافد تشكيل الوعي، بجوار الكتاب والراديو والمدرسة والدفء العائلي، في توازن لم يشوهه الصخب، ولم تجد فيه الانحيازات البدائية الضيقة مكانًا، وعلى الرغم من التغيرات العنيفة، التي غشيتنا فيما بعد، بقي القللي محتفظًا بسمته وجوهره وخصوصيته.

ذكرت قبلًا الدور الذي لعبه الأستاذ في فتح أبواب القراءة لنا، وكيف وفر لنا كتاب حياة الصلاة، وهو دور تكامل مع إسهامات خدام جيلي متعددي المواهب في تمايزات وضعتنا وسط كوكبة من المعلمين، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، الأساتذة ـ مع حفظ الألقاب ـ المهندس بانضباطه وتدقيقه وحنوه، والأستاذ لطفي فهمي الحكاء البارع صديق القديسين والآباء، والأستاذ ميشيل إيليا الباحث الذي ينقلنا إلى دوائر المعرفة الموثقة ويشير إلى مراجعها، والأستاذ حنا يوسف إندراوس الذي يقدم لنا أعقد القضايا اللاهوتية والروحية الحياتية بلغة مفارقة للجمود والنمطية، أو قل بلغة شبابية معاصرة.

أي بستان هذا الذي غُرسنا فيه، ألم أقل لكم قبلًا أننا كنا محظوظين!!.

غير بعيد كان يقف أبونا ، القادم لنا من شمال السودان بعد خدمة ممتدة هناك، الذي تأسس وعيه في جمعية أصدقاء الكتاب بأسيوط، حتي يمكنك أن تدعوه “فلاح الكتاب المقدس”، يحرث أسفاره ويعانق آياته، ويجول في أروقته، يعانق فيها المسيح، يتتبع بشغف قصة الفداء العظيم بين نبوات العهد القديم وتوثيقات العهد الجديد، يتوقف كثيرًا أمام تطمينات الله لبنيه ووعوده الصادقة، يشدد الركب المرتعشة ويضع متاعب رعية المسيح على المذبح الذي كان محل عشقه المختار.

بين يدي هذا الرجل كانت خطواتي الأولى في درب الوعي الكتابي والآبائي، كانت سني عمره تقترب من الثمانين، لكنه كان يتمتع بروح الشباب وبصوت جهوري ترتج له أرجاء الكنيسة حين يعظ، كنت أرافقه من الكنيسة لبيته، وفي منزله يسألني عما قرأت فأخبره، “المرة الجاية تجيب معاك الكتاب اللي بتقراه” نجلس مجددًا ومعنا الكتاب، أبدأ بالقراءة وينصت، ثم يشير إليّ هل تعرف مصدر هذا الكلام، افتح إنجيل يوحنا… افتح سفر إشعياء … افتح رسالة … ويربط لي بين ما قرأته ومصادره في أسفار الكتاب المقدس، وهكذا اكتسبت منهجًا جديدًا في استيعاب وفهم وتأصيل قراءاتي الروحية، ولما كانت أغلبها ـ وقتها ـ كتب أبونا ، فقد جمعت بين الفكر الكتابي والفكر الرهباني لأكتشف معها أن أبونا متى كاتب ومفكر إنجيلي قُح.

ما زلت أذكر ذاك الكتاب الصغير، الذي صدر في ثلاثة أجزاء صغيرة ـ كتيبات ـ في أعوام 1965 و 1969 و 1971. ثم صدرت مجمعة في كتاب واحد “الخدمة” عام 1980، قرأته مجزءًا ثم مجمعًا، كانت القراءة الأولى متزامنة مع بدايات خدمتي في صفوف ، وظني أنه مشتركًا مع كتاب “حياة الصلاة” كان سببًا رئيسيًا في تتبع إصدارات دير أنبا مقار وحتى اللحظة.

ومعهما وبشكل حثيث، بدأت أدرك عمق الكنيسة التي استطاعت بوعي وعمق أن تحول الكتاب المقدس إلى حياة معاشة عبر صلاة ممتدة يومية في تها، ما بين القداس والتسبحة، حتى أن أحد الآباء الكهنة قدم للمكتبة كتاب ال، الذي يضم القداسات الثلاثة، موقعًا على آيات الكتاب المقدس، كلمة بكلمة وجملة بجملة، حتى يمكن أن نحسبه خولاجي بشواهد كتابية، ويحسب أحد دلالات إنجيلية ال الأرثوذكسية.

كتاب “الخدمة” رغم صفحاته القليلة نسبيًا يعد مرشدًا للكنيسة وللخدام، كهنة وشمامسة ومدنيين في صفوف اجتماعات الشباب ومدارس الأحد، وهو ما سنطوف حوله في لقاء قادم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ حكايتي مع دير أنبا مقار[الجزء السابق] 🠼 الحياة.. المنهج.. الرؤية
كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار ال المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎