المقال رقم 3 من 3 في سلسلة حكايتي مع دير أنبا مقار

يتقدم إليكم الرهبان القاطنون بوادي الريان بطلب قبول الشكل الرهباني على طقس دير القديس أنبا مقار الذي يرأسه نيافة الحبر الجليل أنبا ميخائيل، على أن يكون علامة صلح وسلام. وتفضلوا بقبول خضوعنا في المسيح.

(خطاب الأب ورهبانه لقداسة البابا )

قبل أن نتعرف على محاور سهرتنا مع الأب الراهب المشرف على بيت الخلوة، وحواره الممتد معنا، وكنا أربعة شباب، حتى تباشير فجر اليوم التالي، دعونا نتعرف على بدايات انتقال الأب متى المسكين ورفاقه، من وادي الريان إلى دير القديس أنبا مقار، والصلح الذي تم مع البابا (القديس) الأنبا كيرلس السادس، بعضها سردها الأب القمص ، مهندس المصالحة، في كتابه أحداث كنسية عشتها وعايشتها، صدر عام 1989، وكثيرها ورد في الكتاب الذي صدر عن الدير وأعده رهبانه، وصدر عام 2008 وعنوانه أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية وتتطابق الأحداث في كليهما.

في العام (1969) يتوسط القمص صليب سوريال، وهو كاهن بالجيزة، خريج كلية الحقوق وله دراسات في القانون الكنسي، وقريب للبابا بالجسد، للصلح بين البابا كيرلس والقمص متى المسكين وينجح في ذلك بعد جهود دعمها ال، ورئيس آنذاك، يوافق قداسة البابا والأب المطران على أن يذهب الأب متى المسكين ومن برفقته من الرهبان إلى دير الأنبا مقار. ويتم تغيير شكلهم الرهباني على طقس ديرهم الجديد ـ نقل انتسابهم الرهباني إليه ـ بيد البابا البطريرك، في 9 مايو 1969، الذكرى العاشرة لرسامة البابا كيرلس بطريركًا.

حمل الرهبان أمتعتهم القليلة ومعها نوافذ وأبواب المغائر التي كانوا يعيشون فيها، ولوازم مغارة الكنيسة وجهاز تقطير مياه، وتموينات الرهبان من البقول والأطعمة المحفوظة، حمّلوها على عربة، أعارتهم إياها، مجانًا، شركة جابكو التي كانت تحفر آبار مياه في صحراء الفيوم، إلى ديرهم الجديد، تسبقهم أحلامهم بحياة جديدة أوفر حظًا من شظف العيش الذي عاشوه في مغائر وادي الريان، كانوا إثني عشر راهبًا مع معلمهم، ووجدوا بالدير عشرة رهبان أغلبهم من الكهول، وقد أحسنوا استقبالهم بفرح، واعتبروا قدومهم استجابة لصلواتهم لله أن لا يدع الدير على حالته وقد كاد أن يسقط على رؤسهم، وقد صارت مبانية، القلالي والأسوار، مليئة بالشقوق، ومهجورة.

أفاق الرهبان الوافدين على واقع صادم، فالرمال تكاد تبتلع أسواره، ولم يجدوا أماكن تكفي لسكنهم، والموجود لا يصلح للسكن وغير صحي بكل المقاييس، لتبدأ رحلة معاناة جديدة، بدأت بإزالة الرمال من حول الأسوار وترميم القلالي، ولكن مشوار التعمير امتد لنحو خمسة عشر عامًا بلا انقطاع، كان إيمانهم أن الأسوار والمباني ترتفع ليس فقط بالحجر والمونة بل بالصلاة قبلها، وربما وحدها، حسب تعبير الأب متى لرهبانه، كان مشوار تعمير الدير ملحمة شهدت تدخلات الله الفائقة التصور، في تدبير المعدات الثقيلة والمؤن اللازمة، وامتدت إلى استصلاح الأراضي وزراعتها وما استتبعها من مشروعات مرتبطة بالزراعة في دوائر الإنتاج الحيواني والداجن، كانت خطة الرهبان الحفاظ على التراث الأثري للدير، وبناء مبان جديدة، تتفق واحتياجاته وفق القواعد الهندسية والمعمارية المعاصرة، خارج حرم الدير الأثري، ونجحوا في ذلك.

اللافت هو الحرص على توفير مسكن صحي، للراهب، يتوفر فيه ضرورات الحياة بجوار مكان يمارس فيه عبادته ونذوره، ليصبح النسك اختياره بمحض إرادته وليس مجبرًا عليه. وكانت القلاية تضم حجرة معيشة بسيطة متسعة للقراءة والدراسة، مكتب ودولاب حائط به رفوف تستوعب مكتبة مناسبة، ودورة مياه كاملة، ومحبسة، تمكن الراهب من الإقامة داخل قلايته لأيام دون الحاجة للخروج.

دعونا نعود “لسهراية” الشباب الأربعة والأب الراهب الأربعيني، الذي بادرنا بقوله إن حرص أبونا متى منذ اللحظة الأولي التي دخل فيها هذا المكان، تأكيد أننا رهبان قصدنا الرهبنة للرهبنة، وهي عنده أقصر وأفضل الطرق، للمدعو لها، للتعرف على الله ومقاصده دون أن تزاحمه أية أغراض أو تطلعات أخرى، وأن الدير هو موطن لقاؤنا بالله، وأنه آن للكنيسة أن تسترد ألقها، ووعيها بإعادة التواصل مع زخم تعاليمها، وأكد غير مرة على الدور المحوري للإنجيل في حياة الراهب، بغير أن تأخذه المعرفة الإنجيلية لشهوة الخدمة خارج ديره، فهي لبناء جسور التواصل مع المسيح وحتى لا تغيب الأبدية عن عينيه للحظة.

لذا كان حرص أبونا الروحي، يقصد الأب متى المسكين، أن لا تنقطع صلة الراهب بالمذبح والليتورجيا التي تعد سر حياته، وأن يداوم على القراءة في سير القديسين وما تركوه لنا من شروحات وخبرات حياتية وعمق لاهوتي، لذلك استقدم معلمين متخصصين في اللغات التي دون بها الآباء الأوائل كتبهم وعظاتهم، وفي مقدمتها اليونانية القديمة، واستقدم لمكتبة الدير، إضافة إلى مخطوطاتها، أمهات الكتب ذات الصلة خاصة تلك التي تتناول القرون الأولى، قبل نيقية وبعدها.

العنصر الثالث كان الحرص على الموازنة بين التزامات الراهب ونذوره الرهبانية وبين عمله في الدير الذي يعد امتدادًا لما عرف بعمل اليدين، وانعكس هذا على هندسة القلالي التي يفصل بينها وبعضها مساحات توفر استقلالية الراهب في مناخ هادئ لا يشغله أو يشاغله، ويمتنع على غير الرهبان الدخول إليها، وأعاد الأب متى المسكين إحياء تقليد المائدة، بحيث يجتمع الرهبان معًا لتناول غذائهم حول مائدة ممتدة، في حين يتناوب الرهبان قراءة سير القديسين وتعاليمهم في أثناء الأكل، تمامًا كما كان الأمر في الأديرة القديمة. وقد حرص الأب المشرف على تطبيق هذا الأمر بيننا في أيام تواجدنا هذه في الدير.

ونجح الدير في أن يُبقي رهبانه رهبانًا بغير أية رتب كهنوتية، باستثناء نفر قليل منهم، لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، بقدر احتياج الدير في إقامة القداسات والصلوات ال والطقسية.

ونجح أيضًا في أن يحد من الزيارات الخارجية للدير إذ حصرها في يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وحتى فيهما لا يستقبل الدير حافلات كبيرة وتقتصر الزيارة على السيارات الصغيرة وبموعد مسبق، الأمر الذي انعكس على هدوء الدير ونظافته ورونقه.

وأوجز الأب الراهب مجمل ما قاله في تحديد العناصر التي تشكل منهج الدير ورؤيته:

ـ الهيكل والمذبح (الصلاة).
ـ المكتبة (الوعي والتلمذة الفكرية).
ـ القلالي (الوحدة والعبادة).
ـ المائدة (شركة المعيشة).
ـ مصادر عمل (الاكتفاء والتنمية).

بعد سنوات، الخميس 8 يونيو 2006، يرقد الأب متى المسكين بشيخوخة صالحة ويقدم برحيله درسه الأخير، بوصيته أن يدفن على غرار أسلافه في التراب، بجوارهم في مدفن (طافوس) الدير القديم، بلا أية مظاهر تفرقه عنهم، وقد نفذ أبنائه وصيته، فدفنوه كما أراد، ووضعوا فوق المكان صليب خشبي بسيط يحمل اسمه وتاريخ نياحته، شأن بقية الآباء حوله.

كانت إقامتنا بالدير فرصة لقراءة مركزة لبعض كتب الأب متى المسكين، والحوار حولها، بعضها كان مرتبطًا بالخدمة والبناء الروحي ومركزية الإنجيل في الكنيسة وبعضها كان مشتبكًا مع قضايا محل جدل، سنفرد لها لقاء تال، أو ربما لقاءات.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ حكايتي مع دير أنبا مقار[الجزء السابق] 🠼 أيام داخل الدير
كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار ال المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎