لماذا يرتبط التعصب والإرهاب بالمجتمعات المنغلقة والمعادية للمعرفة والرافضة للانفتاح على ثقافات ومعارف خارجها، وقد استراحت إلى أن هذا، حماية للخصوصية ودرءًا لمؤامرة كونية تستهدفها، وهو طرح يدغدغ وجدان العامة ويجذر فيهم روح الاستعلاء، ليصبح الأخر هو الجحيم [1].
مازال في الجَعْبة حكايات ومازال الحلم ممتدًا، حكايات من الماضي وحلم للمستقبل والخيط ممدود بينهما والهدف الإنسان هنا على الأرض حيث العيش المشترك وهنا في مصر حيث الموروث الحضاري الممتد حتى إلى ما قبل التاريخ، قد لا يستشعره البعض وقد أغلقوا نوافذ المعرفة فراحوا يجترون مخزونًا شعبويًا متخم بالاستعلاء لا يرون فيه إلا أنفسهم، وباتوا بحاجة إلى نور المعرفة.
وعلى ذكر المعرفة، عندي حكاية تقول بأن شابًا راهبًا ذهب يومًا شاكيًا إلى أبيه الروحي بأن الأفكار الشريرة تداهمه كل يوم وتفقده سلامه وعبثا حاول مقاومتها، نظر الأب إليه في حنو وأعطاه نسخة من الكتاب المقدس وطلب إليه أن يقرأه جميعه، فرح الشاب وراح يلتهم صفحات الكتاب ظنًا منه أنه وقع على حل سحري، ولكنه وجد نفسه مازال على حاله، عاد إلى أبيه فطلب إليه ثانية أن يعيد القراءة، فعل ما طٌلب منه، ولكن وضعه لم يتحسن كثيرًا، ويكرر عودته لأبيه فيكرر له نصيحته بالقراءة، مرة ومرات.
ويومًا قال له الأب دع الكتاب جانبًا، ثم ناوله سلة مصنوعة من البوص وطلب منه أن يملأها ماءًا من بئر الدير، لم يستطع الراهب الشاب أن يعترض لكنه تعجب كيف يمكن لسلة مجدولة من بوص أن تحتفظ بماء، ألعل ملاكًا سيسد فتحاتها؟ ربما..!!، ربط السلة بحبل خشن وأنزلها البئر وأصعدها، لكن الماء كان ينساب منها عائدًا إلى البئر، وعبثًا كرر المحاولة.
فعاد إلى أبيه، وراح يؤكد له أنه حاول أن يملأ السلة ماءً لكنه فشل، أجابه: بالطبع لن تمتلئ لكن ألم تلحظ أن السلة تغيرت؟ نعم يا أبي لقد صارت نظيفة؟ أدرك الشاب المغزى، فالقراءة باعتبارها المدخل الأكبر للمعرفة لن تقدم للمرء حلًا لحظيًا أو سحريًا لمتاعبه ومشاكله، لكنها في تراكم حثيث تزيل أتربة الجهل، وتجلى العقل وتفتح أفاقًا للتواصل مع الاستنارة، لعل هذا بعض مما قصده ق. يوحنا بقوله في البَدْء كان اللوغوس (العقل ـ الكلمة) وكان الكلمة الله.. فيه كانت الحياة
.
وقد يفسر لنا هذا لماذا يرتبط التعصب والإرهاب بالمجتمعات المنغلقة والمعادية للمعرفة والرافضة للانفتاح على ثقافات ومعارف خارجها، وقد استراحت إلى أن هذا، حماية للخصوصية ودرءًا لمؤامرة كونية تستهدفها، وهو طرح يدغدغ وجدان العامة ويجذر فيهم روح الاستعلاء، ليصبح الآخر هو الجحيم.
المعرفة تولد الاستنارة، والاستنارة تقودنا إلى قَبُول التعدد والاختلاف، ومنها تستقيم العلاقات البينية وتجد منظومة حقوق الإنسان مكانًا لا في القوانين والدساتير وحسب بل في الذهنية الشعبية، وفي المؤسسات، وعلى ضفافها تجد القيم الإنسانية مناخًا صحيًا للإثمار، فتعود أجواء الألفة والمحبة والإيثار.
شيء من هذا لمسته في طرح الراهب البرتغالي خوان أرياس، في كتاب يصدمك عنوانه وتصالحك سطوره [لا أؤمن بهذا الإله] إذ تكتشف أنه يرفض العديد من تصورات الناس عن الله حتى كادت صورته عندهم تبدو على النقيض من الإله حسب الأديان.اكتشفت في بعض سطوره تشابكًا مع حلم الأب سابا ـ مطران الجولان للروم الأرثوذكس ـ الذي طرحناه قبلًا، لكنه هذه المرة يطرحه راهب يسوعي من الكنيسة الكاثوليكية، يقول:
* الكنيسة التي أحبها تلك التى لا تقول: “عليك أن تطيعني”، بل تقول: “علينا جميعـًا أن نطيع خالقنا”…
* تلك التي تثق بأن المسيح هو الميناء وبأنها ليست إلا المنارة، وتقيم البرهـان عـلى ذلك…
* تلك التي تؤمن أن الروح أكثر حضـورًا في إنسان يحب، منه في سائر تنظيماتها…
* تلك التي، إذا شاهدت ضحل الإيمان عـند الناس وشعرت بأن الزورق يكاد يغـوص في المياه، لا تمسك بالسوط، وتكتفى بأن تقـول: “لماذا تخافون؟”، بل كما قال المسيح بكل الحب والحنان والتفهم والعـمل: [تَشَجَّعُوا ! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا… يَا قَلِيلَ اَلإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟… وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ اَلرِّيحُ]
* تلك التي تفضل أن تزرع الآمال عـلى أن تحصـد الدموع…
* تلك التي، إذا ما أخطأتُ, تساعدني على الاهتداء إلى مستقيم السبيل، ولا تدفعني إلى الخروج عـنها خروجـًا ما بعـده خروج…
* تلك التي تحسن اعطـائي “مجانـًا” ما أخذته “مجانـًا”…
* تلك التي لا تفرض أحمالًا لا تستطيع هي حملها، مما تنوء به كواهل الفقراء…
* تلك التي تقـدم لي بسخاء كل غـناها الروحي، دون أن تفـرضه عـلىّ تحت طائلة العـقاب…
* تلك التي تصغـى بجدية وآمال معـقـودة إلى أصوات الفقراء والضعـفاء، أكـثر منها إلى أصوات الأغـنياء وأصحاب السلطة، لأنها تعلم أن الفقراء أوفـر حرية وأقـل تورطـًا وأكـثر انفـتاحًا عـلى الإله الذي لا ينفـك يدعـو البشر…
* تلك التي دعوتها هي المدافعـة عـن كل حق إنساني، وليست حماية للامتيازات، سواء كانت لها أو لسواها…
* تلك التي تخلّص وهي تبارك وتسامح وتعـذر، أكـثر منها وهي تعاقب…
* تلك التي تؤمن بالمسيح أكـثر منها بالبنوك والسياسة…
* تلك التي تبتغي النصر لا عـن طـريق السلطة، بلّ عـن طريق القـوة العجيبة المقـدسة الكامنة داخلها وتحفظها…
* تلك التي تمنح الذين يؤمنون بها والذين يناهضونها، على حد سواء، الحرية والثقـة…
* تلك التي يختار خدّامها الجماعة المسيحية بإرشاد الروح القدس، لا الذين يمارسون الضغـوط…
* تلك التي تؤثـر لرعاتها صدقـًا يؤلم ولكنه يوقـظ، عـلى تبخـير يدغدغ ولكنـه يبعث عـلى الرقـاد…
* تلك التي تقبل مسرورة أن يزرع الله في حقول غـير حقولها، ويحصد هناك ما قد يفوق الحصاد عـندها…
* تلك التي لا تقدّم لي إلهًا مثلجـًا جامـدًا، بل إلهـًا حيـًا، حاضـرًا، لا يزال يتكلم، إلهـًا نستطيع اكتشافه في كل لحظة لأنه معين لا ينضب…
* تلك التي لا تخشى أن تخطئ من جـرّاء تمسكها الزائد بروح الإنجيل, بقدر ما تخشى الخطأ من جرّاء التشبث المفرط بسلطتها وصلاحيتها…
* تلك التي تكلمني عن الله أكثر منها عن الشيطان، وعـن السماء أكثر منها عـن الجحيم، وعـن الجمال أكـثر منها عـن الخطيئة، وعـن الحـرية أكـثر منها عـن الطاعـة، وعـن الرجاء أكـثر منها عـن السلطة، وعـن المحبة أكـثر منها عـن الأبدية، وعـن المسيح أكـثر منها عـن ذاتها، وعـن العالم أكـثر منها عـن الملائكة، وعـن جوع الفقراء أكـثر منها عـن المساهمة مع الأغـنياء، وعـن الخـير أكـثر منها عـن الشرّ، وعمّا هو حـلال أكـثر منها عمّا هو حـرام, وعمّا هو لا يزال قابلًا للبحث والتنقيب أكـثر منها عمّا هو في حـيّز العلم، وعـن اليوم أكـثر منها عـن البارحة…
* تلك التي لا تفـرض عـلىّ أن أتخلّى عـن شخصيتي لأكون مسيحيـًا، ولكنها تساعـدني عـلى اكتشاف ما زرعـه الله فىي من عجـائب وثروات…
* تلك التي كل همها أن تسعى إلى الأصالة لا العـدد، أن تكون بسيطة تفتح نوافـذها للنـور لا متسلطة، أن تكون مسكونية لا عقائدية جازمة, أن تكون قديسة لا أن تكسب تصفيق الجماهير, أن تكون للجميع لا أن تكون جامدة منعزلة…
* تلك التي تـنير ضمـيرى دون أن تحـلّ محـلّه…
* تلك التي، هي أم اكـثر منها ملكة، ومحـامي أكـثر منها قاضٍ ديّـان، ومعلّم أكـثر منها شرطي…
* تلك التي تستطيع أن تكون رؤوفة بكل ضعف، وجبارة في وجه كل رياء وخبث، ولا يمكنها أن ترمي بجواهرها للخنازير…
* تلك التي نارها مشتعلة أبدًا لمن يرتجفون بردًا, التي خـبزها حاضر أبدًا لكل جائع، وبابها مفتوح، ونورها يضئ، وسريرها جاهـز للذين يسيرون تعـبين، باحثين عـن حقيقة وحب لم يُعط لهم بعـد العـثور عليهما…
ويبقى السؤال متى يتحقق الحلم… الآن أم ننتظر آخرين؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨
