بين أوراقي القديمة، وجدتُ هذه السطور، والتي كانت مقالًا نُشر بجريدة “الأهرام المسائي” بتاريخ 28 ديسمبر 2009. وجدتها وكأنّ مداد سطورها لم يجفّ، والزمن لم يبرح مكانه، فما أشبه اليوم بالبارحة! تغيرت الوجوه، وبقيت المواقع تفرض نهجها على القادمين الجدد. أدعو قرائي اليوم إلى مشاغبة فكرية تخرج بنا من نسق المصادمات المصطنعة التي غالباً ما تفتقر إلى الموضوعية وتقع في حسابات التوازنات التي تأخذ أطرافها إلى اللا تلاقي، وتثير كثيرًا من الغبار في مناخ هو بطبيعته لا يستسيغ ثقافة الحوار، حتى إلى درجة رفض الآخر في توحد مع الذات وإعلاء للأنا.

في مطلع ستينيات القرن الماضي، كنت أجلس في صفوف صبية . كان المدرس شابًا وسيمًا مثقفًا استطاع أن يجمعنا حوله بحب وأبوة تتجاوز سن شبابه المبكر. كنا نسميه الحكواتي. قال يومًا أن ثريًا يعيش في واحدة من ضواحي العاصمة المتميزة، لاحظ أن شحاذًا يجوب المنطقة عند الغروب يوميًا وهو يصيح: خطيئتك يا .. خطيئتك يا آدم، بلا كلل أو ملل. استدعاه يومًا مستفسرًا، فأجابه: يا سيدي، كل ما أنا فيه من عناء سببه أبونا آدم، لذا فأنا لا أكف عن عتابه! ألم يكن قادرًا على مقاومة فضوله اللحظي وقتذاك، والذي بسببه طردنا نحن إلى الأرض حيث الشقاء والألم والمعاناة والموت؟

حاول المُضيف أن يهوّن عليه ودعاه للعشاء معه. بُهت الشحاذ من الدعوة ومن المأكولات والأطعمة كمًا ونوعًا. وقبل أن يهمّ بالأكل، استأذنه المضيف لاضطراره للخروج لدقائق معدودات يعود بعدها ليشاركَه المأدبة والحوار، وترك له حرية أن يأكل دون انتظار، على ألا يقرب من إناءٍ بغطاء حتى يأتي. خرج المضيف وانشغل الشحاذ بالإناء المغطى: إشمعنى ده؟ يعني إيه الزيادة اللي فيه؟ تردد للحظات بين إطاعة التوجيه وشغفه للمعرفة، وأخيرًا حسم أمره: أكشف الغطاء ثم أعيده مرة أخرى، ولا من شاف ولا من دري. رفع الغطاء فإذا بعصفور ينطلق من تحته ويطير خارج القصر! أُسقط في يد الرجل ولم يكن أمامه إلا أن يتسلل على أطراف أصابعه إلى خارج القصر. المفاجأة أنه في اليوم التالي كان الشحاذ يجوب المنطقة عند الغروب وهو يصيح: خطيئتك يا آدم… خطيئتك يا آدم!.

كان الثرى يود أن يطمئنه بأن آدم عاد إلى رتبته الأولى كنتيجة لفداء المسيح الذي أتمه حال تجسده وموته وقيامته، وأنه إذا كان في آدم مات الجميع ففي المسيح سيحيا الجميع.

شيء من هذا حدث معي، وأجدني مطالبًا بتقديم اعتذار لأطرافه. فقد كنت أتوقف كثيرًا أمام شخصية وقورة، ولها وضعها الديني والاجتماعي، ويتميز صاحبها بالصدق مع النفس والبحث الدؤوب عن الحقيقة، لكنه كان بحكم المناخ السائد يحسب بدقة خطواته على خلفية وضعيته الدينية والاجتماعية. عن أتحدث، وهو أحد الشخصيات التي عاصرت السيد المسيح والتقت به، يُعرِّفه الإنجيل بأنه من الفريسيين -المدققين في تطبيق أحكام ال بحروفها إلى حد التشدد بل والتطرف- وكان من رؤساء اليهود. كان له حوار لاهوتي ممتد مع السيد المسيح غاية في العمق، كشف لنا مفهوم الولادة الجديدة كمدخل للفوز بملكوت السموات، لكن مع هذا كنت أعتِبُ عليه أنه لم يملك الجرأة لمقابلة المسيح في وضح النهار، خوفًا من العاصفة التي يمكن أن تقتلعَه بفعل ضغط الرأي العام، إذ يذكر الكتاب في أكثر من موضع أنه كان يلتقي المسيح “ليلًا وسرًا”!

وعندما انطلقت فعاليات التيار ال، حُسبت عند كثيرين عملًا مناوئًا للكنيسة، وكنا نتفهم هذا على خلفية التراجع الثقافي المجتمعي وتسيد الثقافة السماعية، والتي عندما تتجذر تقودنا إلى شيوع نسق القطيع الذي سلم قيادته لمن يوجهه، وهو نسق نلمسه قابعًا في العالم الثالث. وزاد من وطأة الأمر الإيمان عندهم بنظرية المؤامرة. وسط هذا الهياج، كان هناك شعاع يخترق تلافيف ظلمات الفكر المتراجع، تكونت جزيئات الشعاع من الاتصالات المتتالية من رموز مشهود لها في دائرة ال القبطي؛ آباء أساقفة وكهنة وشمامسة، كان شرطهم أن تبقى بعيدة عن الأنظار. تجدد معها في داخلي عتاب نيقوديموس، لكنني انتبهت إلى عدم إمكانية تغافل الضغوط المجتمعية في مناخ مُعاش يمكن أن تصل إلى حد الإقصاء والإبعاد لشخوص يمثلون أملًا في مستقبل أكثر استنارة وانفتاحًا واحترامًا لحق الاختلاف دون أن نصنع منه خلافًا، خاصة وأن شعاع التنوير قد وجد له مكانًا بين الأجيال الواعدة المحسوبة نصف الحاضر وكل المستقبل. ويبقى تفهم توجيه السيد المسيح عبر مثل زائر نصف الليل، والذي ثابر بإلحاح على طرحه فاستجاب له صاحب البيت الذي قصده. لذا أجدني معتذرًا لكل من تفهم دعوتنا وناقشنا فيها بموضوعية، وكانت رؤيتهم أن أشد ساعات الليل حلكة هي تلك التي تسبق الفجر.

في غضون هذا، تأتيني رسالة من شاب يمثل جيل المستقبل، تحمل سطورًا من مناجاة بعنوان “الحلم” للأب سابا إسبر، مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان لل، نقلًا عن افتتاحية العدد الثاني، السنة التاسعة (2009) لنشرة “العربية” التي تصدر عن المطرانية، تقول بعض سطورها:

• أحلم بكنيسة سيّدها يسوع .
• أحلم بكنيسة أعضاؤها يسعون إلى حياة البر في كل حين.
• أحلم بكنيسة شبابها يرى حيوية حياته تتدفّق من حضنها.
• أحلم بكنيسة ينعم شيوخها بدفء حضنها في غروب حياتهم.
• أحلم بكنيسة راسخة في تراثها وحاضرة على الدوام لمواجهة كل جديد.
• أحلم بكنيسة تُفسح المجال للروح القدس كي يفعل فيها.
• أحلم بكنيسة لا تخنق الروح القدس تحت مسمّيات كثيرة، ولا تنسب إليه ما هو من ضعفها لكي تبرّر انحطاطها.
• أحلم بكنيسة آباؤها الروحيّون أطهار بكل ما في الكلمة من معنى.
• أحلم بكنيسة تُطلق شبابها ليحققوا نفسهم في المسيح فيها وبإرشادها، وأمقت كنيسة تُعلّم أبناءها أنّ سبيلهم إلى الرب لا يكون إلا بطاعة عمياء، تُفقدهم شخصيّتهم التي خلقهم الله عليها.
• أحلم بكنيسة تُلاقي العالم بروح الفرح.
• أحلم بكنيسة لا تحصر العالم ضمن جدرانها الأربعة، بل تنطلق إلى العالم لتجعله كنيسة.
• أحلم بكنيسة لا تدبّر أمورها بحكمة البشر بقدر ما تستلهم الروح في كل شيء.
• أحلم بكنيسة تترك لسيّدها القرار الأخير، وتسعى جهدها لمعرفة مدى تطابق قراراتها مع رؤياه تعالى.
• أحلم بكنيسة تطأ قدماها الأرض ولاتكلّ من التطلّع إلى السماء.
• أحلم بكنيسة تَخرج من مقياسها البشري كل يوم في سعي لتكون على قياس ربّها وسيّدها.
• أحلم بكنيسة تُسخّر المال لخدمة شعب الله.
• أحلم بكنيسة لا ينحصر همّها في الحجر، بل تعي أن الكنيسة الحقيقية هي تلك الحيّة.
• أحلم بكنيسة تُشارك المؤمنين همومهم وهواجسهم.
• أحلم بكنيسة واحة تعزية في صحراء هذا العالم.
• أحلم بكنيسة تعرف كيف تفرح بالرب وتنقل فرحها هذا إلى الناس.
• أحلم بكنيسة تميّز سلام المسيح من سلام هذا العالم.
• أحلم بكنيسة تعيش ملء الحياة.
• أحلم بكنيسة قياميّة.
• أحلم بكنيسة تُعطي المشاركة أولويّة رعائية.
• أحلم بكنيسة تعرف لغة هذا الدهر فتنقل البشارة بأسلوب يفهمه السامعون.
• أحلم بكنيسة تختبر عيش المحبّة كلّ يوم.
• أحلم بكنيسة تستوعب مواهب أبنائها في إطار تكامل لا تنافس.
• أحلم بكنيسة لا تُفرّق بين إكليريكيين وعلمانيين. بل تعتبر الجميع كهنوتًا ملوكيًا.
• أحلم بكنيسة لا ترضى أقل من القداسة، ولا تعمل إلاّ لتطعيم الحياة بملكوت السماوات.
• أحلم بكنيسة لا تُسيّرها الاعتبارات البشرية.
• أحلم بكنيسة يتساوى فقراؤها وأغنياؤها بالقيمة والاحترام.
• أحلم بكنيسة لا تكفّ عن العمل من أجل تحقيق ملكوت الله هنا والآن.
• أحلم بكنيسة تكون جسد المسيح الممدود في الأرض.
• وقانا الله كنيسة مؤسّسة تُميت سيّدها وتبقي على اسمه.

وبين الحكاية والاعتذار والحلم يتكون جنين سعينا لغد أفضل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎