أعاد السياسيون الغربيون ومراكز الفكر والمنظمات غير الحكومية توجيه جهودهم نحو “إنقاذ” المسيحيين في الشرق الأوسط الذين يواجهون العنف عقب الغزو الأمريكي للعراق، والربيع العربي، وظهور تنظيم داعش. وقد تمحور الاهتمام الغربي بشكل كبير حول تراجع الوجود المسيحي في المنطقة. وبينما ركز هذا الاهتمام على صمود المسيحيين الشرقيين -متغنيًا بكونهم جزءًا من “كنائس قديمة” أو شهداء العصر الحديث- إلا أن هذه المجتمعات هاجرت بشكل متزايد إلى الغرب، وواجهت أشكالًا جديدة من الإقصاء.
يتناول كتابي الشهداء والمهاجرون: الأقباط المسيحيون وسياسة اضطهاد الإمبراطورية الأمريكية
هذا التوتر من خلال منظور أكبر جماعة مسيحية لا تزال موجودة في الشرق الأوسط: الأقباط الأرثوذكس. فنشأة كنيستهم، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تعود إلى القرن الأول، وقد توسعت عالميًا منذ منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من وجود أرقام متباينة، يشكل الأقباط نحو 10٪ من سكان مصر ولديهم جاليات متنامية في المهجر. ومنذ ثورة 2011 في مصر وتزايد الاعتداءات على المجتمع وأماكن عبادتهم، بدأوا يهاجرون بشكل متزايد إلى الولايات المتحدة.
إن التركيز الديني والسياسي على الأقباط والمسيحيين الشرق أوسطيين ليس بالأمر الجديد. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أصبح موت المسيحيين الأقباط قابلًا لفهم الجمهور أمريكي (وخاصة الإنجيليين) من خلال علم لاهوتي وتصوّر عالمي لـ “الكنيسة المضطهدة”، الذي يرى أن المسيحيين حول العالم يُضطهدون اليوم أكثر من أي وقت مضى في التاريخ. فقد أصبح الأقباط، الذين كانوا في الماضي أهدافًا للبعثات التبشيرية الأمريكية، يُعاد تصوّرهم اليوم كإخوة وأخوات مسيحيين للأمريكيين في معاناتهم من أجل المسيح.
وقد وفّر احتضان الأقباط من قبل المحافظين المسيحيين الأمريكيين والدولة الأمريكية مسارًا جديدًا لنشاط الأقليات العابر للحدود، لجاليات الأقباط المهاجرة. فمن خلال مصطلحات جديدة وسياق مختلف، أصبح بإمكان هؤلاء المهاجرين عرض شكواهم من مصر أمام جمهور جديد متفاعل. غير أن هذا النشاط، والتركيز على السياسة الخارجية، أفرزا أيضًا تحديات أخرى أمام المهاجرين المسيحيين من الشرق الأوسط.
بمجرد وصولهم إلى الولايات المتحدة، يشارك الأقباط تجاربهم للإسلاموفوبيا مع المجتمعات العربية والمسلمة الأخرى في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر. وبينما يرتكز الدعم الديني والسياسي الأمريكي لهم (ولغيرهم من المسيحيين الشرق أوسطيين) على وضعهم الخاص كضحايا للعنف الإسلامي، فإن سياقات التمييز الطائفي في أوطانهم تُعاد تفسيرها وفق أولويات سياسية جديدة في المهجر تتجاوز تفاصيل السياق الأصلي.
تفرض هذه الديناميات المتعددة أشكالًا محددة من الانتماء الاجتماعي والتنظيم السياسي بين جاليات المهجر، مثل الأقباط الأمريكيين، مما يبعدهم من الناحية العرقية والدينية عن المجتمعات التي كانوا يعيشون معها سابقًا في مصر. في مصر، عانى الأقباط من اعتداءات عنيفة من الدولة، وأحيانًا من الجماعات الإسلامية أو حتى الجيران المسلمين، وهذا أمر لا ينبغي تجاهله لصالح رواية التعايش أو الوحدة الوطنية. ومع ذلك، فإن التركيز فقط على تلك الحوادث يفقدنا رؤية الصداقات والتوترات المعقدة بين الجيران من طوائف مختلفة في مصر.
يرصد كتاب “الشهداء والمهاجرون” هذه الديناميات بتوثيق تاريخ نشاط المهجر وعمليات الهجرة، وسرد قصص اللجوء وتجارب التمييز العرقي بعد الحادي عشر من سبتمبر، ومشاركة الأقباط في الحركات المحافظة العالمية، مع انتقال مستمر في التحليل بين مواقع البحث في مصر والولايات المتحدة.
بدأ الكتاب عبر حركتي العابرة بين هذه الأماكن القبطية. فقد سافرتُ إلى مصر لأول مرة في عام 2007 ضمن برنامج للغة العربية. وخلال تلك الرحلة، تعرفتُ عن قرب على عائلة قبطية أرثوذكسية في حي مساكن شيراتون بالقاهرة. وكانت تجربتي الأولى للطقوس الأرثوذكسية معهم، حيث قدّموا لي العالم القبطي، مما جعلني أعود إلى مصر سنويًا تقريبًا منذ ذلك الحين. وفي سنوات السفر تلك، بدأتُ أيضًا بحضور كنائس قبطية داخل الولايات المتحدة، من بوفالو، نيويورك، إلى هايورد، كاليفورنيا. ومع مرور السنوات، ولا سيما بعد ثورة 2011، تغيرت ديناميات الكنيسة في أمريكا، ولاحظتُ توترات بين الأجيال مع موجات جديدة من المهاجرين الأقباط. وبينما كنتُ قد بدأتُ بمشروع عن نمو وانحسار الحركات السياسية القبطية في مصر ما بعد الثورة، أثار اهتمامي الموصول بالهجرة القبطية وتأثيرها على الحياة الدينية والسياسية لهذه الجالية العابرة.
لاختيار مواقع البحث الأساسية، سافرت من واشنطن دي سي ونيويورك إلى لوس أنجلوس وناشفيل. وفي يونيو 2016، حضرتُ مؤتمر “التضامن القبطي” السنوي في واشنطن، وهي منظمة للدفاع عن حقوق الجالية القبطية في المهجر. التقيت بمؤسِّس ومديرة تنفيذية لمنظمة غير حكومية يقودها أقباط، وشجعاني على المشاركة في برنامج تطوعي لتعليم اللغة الإنجليزية لمدة ثلاث أسابيع في ريف مصر.
خلال البرنامج، لاحظت أن معظم الأشخاص الذين التقيتهم لديهم أقارب في الولايات المتحدة. وأحد هؤلاء الأشخاص، الذي يظهر دورًا بارزًا في كتاب “الشهداء والمهاجرون” -وهو “أمين”- ذكر أن ابنة أخيه تعيش الآن في نيو جيرسي، وقد هاجرت من خلال برنامج تأشيرة التنوع الأمريكية، أو ما يُعرف بـ “يانصيب البطاقة الخضراء”. وفي محادثة لاحقة على الغداء، أوضح أمين أنه رغم وجود مشاكل في العداء بين المسلمين والمسيحيين في مصر، “عندما يذهب المسيحيون إلى السفارة [الأمريكية]، يقولون [إنهم يريدون السفر] بسبب الاضطهاد.”
وهنا انفصال بين هذين التصريحين. ففعليًا، الهجرة إلى الولايات المتحدة من خلال اليانصيب هي عشوائية، ومعظم الأقباط يهاجرون بهذا البرنامج أو من خلال لم الشمل العائلي. لكن هناك تصور رائج بين الأقباط والأمريكيين عمومًا بأن الأقباط يهاجرون أساسًا بسبب الاضطهاد الديني. وقد كان هذا الفهم الخاطئ نقطة انطلاق الحجة المركزية في الكتاب حول كيف أن كونهم مسيحيين ومن الشرق الأوسط يشوَّه من خلال عمليات الهجرة.
يفحص كتاب “الشهداء والمهاجرون” تجارب الحياة اليومية للأقباط المسيحيين، في أثناء تعاملهم مع التوتر بين وضعهم كأقلية في مصر وموقعهم العرقي والديني ضمن المشهد المسيحي الأمريكي المحافظ. ويصوغ الكتاب كفاح الأقباط في موازنة وضعهم كأقلية مختلفة بين مصر والولايات المتحدة، بين هنا وهناك، ليشكّل هيكلًا فريدًا لتوجهاتهم السياسية، ويؤسس موقعهم ضمن الخريطة الجيوسياسية الأمريكية الواسعة والمتداخلة بين قضايا حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.
وبينما يُستَثمَر الأقباط من قبل هذه الهياكل الإمبراطورية، فإنهم ليسوا مجرد جنود للإمبراطورية الأمريكية ولا معارضين لها بالضرورة. يقدم الكتاب نافذة إلى مسار آخر، من خلال التحرك مع المهاجرين الأقباط للتفكير في كيف تشكل القوى الإمبريالية الأقليات في الهجرة، سواء عبر تفسيرات جديدة لهويتهم أو تحول في سياساتهم وتقاليدهم الدينية. يتناول كتاب “الشهداء والمهاجرون” بجدية التحديات التي تواجهها هذه الجاليات القبطية من منظور دولي، ويشارك قصصًا بين مصر والولايات المتحدة من أجل فهم أفضل للدورة العالمية للقوى التي تعيد تشكيل طرق الحياة.
Published to the author
Martyrs and Migrants: Coptic Christians and the Persecution Politics of US Empire, 2025
Anthropologies of Orthodox Christianity: Theology, Politics, Ethics, 2025