قبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال، تزاحمت داخل رأسي مقارنة بين “الفردانية” في مقابل “الشلة” أو “القطيع”، واكتشفت إنني لم أكن يومًا ما ضمن “شلة” بالمعنى الدارج لهذه الكلمة التي تعني أن يلغي الفرد نفسه ويحمل تحالفات وعداوات ومصالح “الشلة”، يختفي هنا تفرده واستقلاليته في مقابل أن يكون جزء من القطيع المكون لـ”الشلة” سواء كان هذا القطيع تيار سياسي أو ديني أو حتى مهني، واكتشفت أن لدي أصدقاء سواء بشكل شخصي أو في الفضاء اﻹلكتروني العام من تيارات مختلفة بين اليميني المحافظ دينيًا إلى الليبرالي، واليساري، والقومي المصري، وما يميز كل منهم هو الفردانية في طرح آرائهم وأفكارهم، التي ﻻ تشبه تمامًا من ينتمون لنفس أفكارهم.
في رأيي أن القطيع أو “الشللية” من ضمن اﻷمور التي طفت على السطح في مصر من بعد يناير 2011، خاصة مع انتشار السوشيال ميديا واستمرت معنا حتى اﻵن، فالحالة الثورية ساعدت على تشكل مجموعات مختلفة، فيجد الشخص نفسه وسط المجموعة التي ينتمي لها، يحمل مشاكلها وصراعتها مع مجموعات أخرى تمثل خصوم لمجموعته حتى يشعر بذاته وأهمية وجوده في الحياة، وظهر هذا اﻷمر على عدة مستويات بداية من السياسة مرورًا بالمهن المختلفة المرتبطة بالشأن العام مثل الفن والصحافة والمحاماة، وحتى مجموعات مشجعين كرة القدم “اﻷولتراس”، الذين تجلت عبرهم فكرة الشللية والقطيع خرجوا من نطاق كرة القدم وتم توريطهم في الصراع السياسي الدائر وقتها ليكونوا وقودًا اشتعلت به أحداث كثيرة وكانوا هم أول الضحايا.
أما الفردانية فتجعل اﻹنسان حر غير مقيد بدوجما أو أيدلوجية معينة تحد من تفكيره وتجعله يرى ما يحدث حوله من منظور ضيق، فيكون تعاطيه مع الأحداث مرن وفقا للتطورات وليس وفقًا لتصور مسبق عقله أسير له. ونجد هؤلاء الفردانيون يؤدون ويؤثرون حسب تخصصاتهم ومهاراتهم وقدراتهم في كثيرين، وبعض منهم يقدم ما ﻻ تستطيع مؤسسات كاملة تقديمه، في مجال مثل تدقيق اﻷخبار، أو التعامل مع الواقع السياسي واﻻقتصادي واﻻجتماعي برؤية واقعية تعبر عن مصالح قطاع كبير من الناس، واﻷهم في الفردانية، هو أنه ﻻ يجب أن تتفق مع أي شخص في كل ما يقول أو يكتب، فهناك مساحة للاختلاف والتباين والتميز، والفردانيون يدركون ذلك وﻻ يريدون أن يتحولوا إلى أن يكونوا جزء من “قطيع” أو “شلة”، أو يمارسوا نفس ممارسات الشلة مع غيرهم.
ويتجلى تأثير الفرد في إعادة نشر النجم المصري محمد صلاح لتويتة اﻻتحاد اﻷوروبي لكرة القدم “UEFA”، لنعي نجم كرة القدم الفلسطيني سليمان العبيد الملقب بـ”بيليه فلسطين” أثر وفاته في قطاع غزة وتساءل صلاح في منشوره: ممكن تقولوا لنا كيف مات وأين وما هو السبب؟ لتنقلب الدنيا رأسًا على عقب، وينتبه الناس إلى الأزمة اﻹنسانية في قطاع غزة من عدم دخول الغذاء والمساعدات الطبية لمواطني غزة.
— Mohamed Salah (@MoSalah) August 9, 2025
فما فعله صلاح بكلمات بسيطة، فاق ما تحاول وسائل إعلام متخصصة أن تعلنه وتقدمه للعالم عن الوضع الكارثي في قطاع غزة، وإذا أكملنا الحديث عن صلاح ونجاحه باعتباره أسطورة حية عالمية في كرة القدم، وتفوق في أرقامه ونجاحه على نجوم كبار عبر التاريخ، فهو عقليته وفردانيته، فلم يسر صلاح في درب قطيع ﻻعبي كرة القدم المصرية الذين لم يحققوا نجاح يذكر على مستوى اﻻحتراف والعالمية، ومن حاول منهم وكان نموذج مشرف لم يصل لما وصل إليه صلاح الذي يمتلك عقلية مختلفة، واستطاع أن يطور من نفسه وعقليته ويحلم ويسعى خلف حلمه، في منظومة تحترم الفردانية وتقدر نجاح كل فرد وتدعمه ليواصل النجاح، لا الغيرة منه ومحاربته والحط من شأنه ﻷنه خرج عن القطيع وتصوراته وتصرفاته.
وحينما تحدث صلاح عن العقلية “mentality” في حديث صحفي سابق وكم هي عامل مهم للنجاح، هاجمته قطعان الزومبي التي كانت تريد من صلاح أن يكون نسخة من ﻻعبين سابقين امتازوا بالسماجة والتظاهر بالتدين في كل شيء، وحولوا كرة القدم وكأنها حرب دينية. وهذا أبرز تحدي يواجهه الفردانيون فالقطعان والشلل ستحاول دائمًا أن تجذبك لتكون جزءًا منهم وإذا لم تستجب ستنال منك سهامهم السامة.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.