قبل أيام قليلة كنت في زيارة لدير أنبا مقار ببرية شيهيت، الاسم القبطي لوادي النطرون، وتعني ميزان القلوب، وجدته كما كان في زيارتي الأولى، الهدوء الذي يكاد المرء معه يظن أن لا أحد هنا، وذكرني بلافتة صغيرة تستقبلك عند مدخل الدير “لا تطلب أن تتحدث مع راهب بعينه، هنا رهبان مهمتهم مرافقتك وخدمتك”، على يمين المدخل مضيفة تستقبلك وتقدم لك وجبة تناسب توقيت الزيارة، يقوم بالخدمة فيها راهبان أو ربما ثلاثة.
يحيط بالدير سور مرتفع، ليس مجرد جدار بل هو مجموعة من الحجرات يسكنها الرهبان، تشغل الدور الثاني، يسمونها “قلالي” ومفردها “قلاية”، وهي كلمة سريانية بمعنى حجرة أو غرفة، وتشمل جزئين، جزء خارجي، ويسمى مضيفة، به مائدة صغيرة، وربما كرسي أو اثنين، وجزء داخلي به سرير صغير وأرفف للكتب، وبعض حاجيات الراهب ويسمى محبسة، وفيه يمارس الراهب عبادته وصلواته. فيما يضم الدور الأول من السور مجموعة أماكن لاستراحة الرهبان واستقبال الزائرين، والمضيفة، وحجرات أخرى لخدمات واحتياجات الدير.
وقد صُمِمَ الجدار بهذا الشكل ليكون مصدًا للرياح وما تحمله من رمال، بجانب استخدامه لسكن الرهبان. وهو سور مستحدث نسبيًا أقامه الدير بعد إقامة الأب متى المسكين ورفاقه من الرهبان فيه عام 1969 ضمن منظومة شاملة لتعمير الدير.
لست هنا بصدد تقديم وصف للدير ومكوناته الأثرية والمستحدثة، حتى لا يستغرقنا العرض فيجور، بتفاصيله الثرية، على هدف سطوري أن أحكي حكايتي مع الدير، التي بدأت قبل سنوات طويلة، تكسر حاجز النصف قرن، حين خطوت خطواتي الأولى في خدمة مدارس الأحد، بكنيسة مار جرجس بالقللي عام 1966، كنت وقتها طالبًا بالمرحلة الثانوية، وكان أمين الخدمة وقتها الأستاذ جورج رمزي، وكان شغوفًا بالقراءة والثقافة شأن جيله من الخدام، وانعكس هذا على حرصه أن يضع أقدامنا على درب القراءة.
ذات يوم، ونحن لم نبرح ستينيات القرن العشرين، يوزع علينا كتاب “حياة الصلاة” باكورة كتب الأب متى المسكين، لم تكن قروشنا القليلة تقدر على شراءه، فوفره لنا بنظام التقسيط الذي امتد لنحو عام ونصف أو يزيد.
انفتحت أعيننا على عالم الآباء، واستغرقنا الكتاب لينقلنا إلى عالم مثالي يتماهى مع أحلامنا في تلك المرحلة العمرية، فيما كنا نقرأ عن ماهية الصلاة وطبيعتها، وتصدمنا مصطلحات الهذيذ والتأمل والدهش وترتفع بنا إلى مجال مصطلحات رؤية الله والاتحاد به، كنا على الأرض نعيش طيف منها ونحن نصلي القداس الإلهي، ونطابقه مع ما طرحه الكتاب عن بيت الله والأيقونات والشموع والبخور والتسبيح بالمزامير والسجود، وفي سياق متصل كان الكتاب خير رفيق ونحن نواجه معوقات الصلاة بين الجفاف الروحي والفتور الروحي وحروب الفكر، وكيف نواجه كل هذا بتنقية القلب وتحرير النفس وانسحاق الروح والمثابرة وضبط الفكر، وكلها كانت عناوين لسطور مضيئة بهذا الكتاب.
كانت تلك مرحلة مؤسِسة لحياتنا الروحية ووعينا الحياتي، نعود إليها ونجتر مخزونها حتى اللحظة، وكانت الشرارة الأولى التي قادتنا للبحث عن إصدارات دير الأنبا مقار، وقتها، وكانت تدور بيننا حوارات ممتدة حولها، امتدت وتعمقت بعد تخرجنا من الجامعة، بتعدد تخصصاتنا، وأذكر أن التليفون الأرضي ـ وقتها ـ كان يتحول عبر مكالمات ممتدة بيننا إلى أداة تتنقل عبرها أحدث قراءاتنا، التى امتدت من كتب الدير إلى مدارات أخرى موازية أو أدبية وثقافية، ومازلنا حين نلتقي مع رفاق المرحلة نتذكر تلك الحوارات الثرية التي حملتنا فوق ضغوط ومتاعب وحروب مراهقتنا وشبابنا، وعبرت بنا منها سالمين فخورين. بل وامتدت حواراتنا فيما بعد عبر الخطابات المكتوبة، نتبادلها مع إخوتنا الخدام سواء على جبهة القتال، في سني حرب الاستنزاف وما بعدها، 1968 – 1976، أو مع إخوتنا الذين ذهبوا سعيًا للعمل خارج مصر، كانت الخطابات أشبه بمحاورات ثقافية، إنسانية وفكرية. أبدًا لا تسقط من الذاكرة.
في غضون ذلك كانت تؤرقني الفجوة بين ما نقرأ ويحملنا إلى السموات العُلى، وبين واقع يئن من ثقل التراجع الفكري والحياتي وصراعات تتسلل أخبارها إلينا من معاقل كنا نحسبها حصون المحبة والسمو، على أصعدة مختلفة، حَمَلتُ هذا الأرق الذي كاد أن يمزقني، وأفرغته في خطاب أرسلته إلى الأب متى المسكين، ربما أجد عنده ما يهدئ قلقي ويرد لي سلامًا كدت أفقده، كان ذلك فيما أتذكر في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، تلقيت بعدها بشهور ردًا كتبه الأب يوحنا المقاري ـ الدكتور رؤوف جرجس قبلًا، الذي أصدر مجلة مرقس ورأس تحريرها، وكنت شغوفا بالمجلة في طوريها حين كانت تصدر للأطفال ثم للنشء والشباب ـ وقد وجدت خطابه بين أوراقي القديمة، فيما لم أحتفظ بصورة من خطابي للأب متى المسكين.
واستأذن القارئ في أن أورد هنا نص خطاب الأب يوحنا المقاري، في غضون عام 1976 تقريبًا.
الأخ المبارك الأستاذ/ كمال سلام ومحبة ربنا يسوع المسيح مع روحك متعشما أن تكون في ملء النعمة الغنية المفاضة علينا من القادر أن يحفظنا بلا لوم ولا عيب أمامه في المحبة وسط تجارب وضيقات هذا العالم.
وصل خطاب محبتكم الموجه لقدس أبينا الروحي الأب متى المسكين من مدة، وكلفني بالرد عليكم، ولكن لظروف خارجة عن إرادتي ووسط أوراقي الكثيرة والخطابات المتعددة وعدم ترتيبي الدقيق لها، لم أنتبه له إلا مؤخراً، فشعرت بالخجل لتأخري في الرد هذه المدة كلها فأرجو المعذرة.
الخطاب يفيض رقة ورصانة وأمانة في التعبير وغيرة على الحق وخلاص النفوس، مما يجعلني أحس أن الله الذي أعطاكم الاستنارة يطالبكم فعلًا بالبذل والعطاء على مستوى القدوة أولًا ثم الخدمة الهادئة المتزنة المقرونة بالصلاة من أجل النفوس التائهة في محيط هذا العالم وفي محيط عملكم وخدمتكم.
أما رد قدس أبينا الروحي فهو يرحب بكم في الدير مع صديقكم العزيز الأستاذ فايق رياض المحامي ـ وأما عن مقابلته فمتروكة لتدابير الله، فعلاوة على انشغالاته الكثيرة وفترات اعتكافه التي تتكرر بين الحين والآخر، فإن إمكانياته الجسدية أصبحت لا تقدر على القيام بمسؤوليات الشباب الخطيرة والكبيرة عن طريق الاتصال المباشر، هذا وإن قدسه يشير إلى أنه يوجد بالدير من يمكن أن يرشدكم من الآباء، ولكن على المستوى الفردي أيضًا وذلك بسبب الظروف التي نجوزها حاليًا في الكنيسة.
ختامًا أرجو أن تتقبلوا محبتي لكم في المسيح يسوع ربنا. وسلام الرب يكون معكم.
كونوا معافين باسم الثالوث الأقدس.
ملحوظة: حتى يتسنى لكم الدخول للدير، أود أن أنوّه على مواعيد الزيارة أنها الخميس والجمعة ـ فيما عدا أيام الأصوام الكنسية.(الراهب يوحنا المقاري)
ربما كان هذا الخطاب بداية لمرحلة جديدة في علاقتي ورفاقي بالدير، إذ شجعنا على أن نطرق أبوابه للزيارة، لينضم إلى باقي أديرة وادي النطرون، التي كنا نزورها بشكل دوري فيما قبل، وجدناه ديرا مختلفًا في هدوئه والتزامه بضوابط الحياة الرهبانية وتحديدًا فيما يتعلق بنمط الزيارات، المحددة والمطبقة بشكل صارم، فلم يكن مسموحًا ـ وقتها ـ باستقبال الرحلات، والأعداد الكبيرة، وكانت الزيارات الفردية أو محدودة العدد، تتم عبر التواصل مع الدير مسبقًا للتصريح بها، لهذا احتفظ الدير بهدوئه ورونقه وانضباطه، وحمى ـ وقتها ـ رهبانه من الاختلاط بالزائرين، وما يحمله هذا من متاعب لهم وللزائرين، ووفر لهم المناخ اللائق واللازم للالتزام بنذورهم الرهبانية، وبتأدية قوانينهم وما يسند لهم من أعمال بالدير.
كان من الطبيعي أن نلتقي بالأب يوحنا المقاري، وعبره نتعرف على الأب كيرلس المقاري أحد علامات وأعمدة ورفقاء الأب متى المسكين، ولم يتح لنا أن نتقابل مع الأب متى المسكين، وبقيت علاقتنا به عبر كتبه وتسجيلاته الصوتية، التي تحمل عظاته، وكنا تواقين للتعرف على مطبعة الدير وفيها نلتقي بالأب الراهب باسيليوس المقاري، الأستاذ يسري لبيب، قبلًا، مدير تحرير مجلة مرقس والمسؤول عن طباعة كتب الدير، وهو شخصية ثورية تملك شجاعة المواجهة وطرح القضايا الشائكة والخلافية، بشكل جسور بحثي مدعوم وثائقيًا، يقف خلفه تاريخ ممتد في مدارات التكريس والخدمة في بيت التكريس بحلوان، ثم الرهبنة بدير الأنبا مقار.
وله العديد من الكتب التي تتعرض لتأصيل التدبير الكنسي، لعل أبرزها “التدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة، و”التدبير الإلهي في بنيان الكنيسة”، و”السلطان الروحي في الكنيسة”. وكتاب “إيماننا المسيحي” الذي صدر في جزئين.
وحين شرعنا في تأسيس التيار العلماني القبطي، كانت مشاركاته البحثية، في مؤتمرات التيار السنوية، لها ثقلها، ومناسبتها في التصدي لإشكالية المحاكمات الكنسية ببحث موثق ومتعمق كان عنوانه “التأديبات الكنسية في الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسي”.
ولعل الكنيسة ـ قداسة البابا تواضروس الثاني والأحبار الأجلاء مطارنة وأساقفة الكنيسة، يلتفتون إلى ما طرحه الأب الراهب باسيليوس المقاري ففيه حلول جذرية لكثير من إشكاليات وأزمات ومعضلات الكنيسة، ولعلهم يجدون فيها ما يساعدهم على وضع نقطة في نهاية سطر طال من المتاعب والإخفاقات التي تحاصرنا.
وللحديث بقية.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨