- الخلاص بالنعمة وحدها عند چون كالڤن
- الطبيعة البشرية الخيّرة عند ذهبي الفم
- مفهوم السينرچيا عند ذهبي الفم
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [١]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [۲]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٣]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٤]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٥]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٦]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٧]
- تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٨]
- الكفارة والفداء في تعليم چون كالڤن
- البدلية العقابية في إقرارات الإيمان البروتستانتية
- ☑ الكفارة والفداء في تعليم أنسلم الكانتربري
نكمل معًا رحلتنا عن اختﻻف مفهوم الخلاص بين الشرق والغرب، وهذه المرة زاوية جديدة لتوضيح نقاط الاختلاف بين تعليم ق. أثناسيوس عن تدبير الخلاص، وبين تعليم أنسلم رئيس أساقفة كانتربري بانجلترا في القرن الحادي عشر عن الكفارة والفداء، وابتكاره لنظرية ”الترضية“ التي سادت العصر الوسيط في أوروبا، وتسلَّلت إلى كنائسنا في غفلة من الزمن، للرد على الذين يعتنقون فكرة وجود نظرية البدلية العقابية في تعليم ق. أثناسيوس الرسوليّ، لاهوتيّ التألُّه والانجماع الكليّ في المسيح، حيث يعتقدون أنهم عندما يجدون كلمات مثل: (بدلاً عنا، عوضًا عنا، نيابةً عنا، فدية، ثمن، كفارة، دَّين، ذبيحة لعنة، حكم)، وغيرها من المصطلحات القانونية، إنه يوجد بذلك تعليم بدلية عقابية عند ق. أثناسيوس، وهذا ضرب من الوهم والخيال.
فالدراس الحقيقيّ الموضوعيّ لتعاليم ق. أثناسيوس حول تدبير الخلاص، يجد أن تعاليمه الخلاصية تتمحور حول تأليه الطبيعة البشرية عن طريق اتحادها بأقنوم الكلمة في المسيح يسوع ربنا، وتبتعد كل البعد عن نظرية الترضية، أو مصالحة العدل مع الرحمة على الصليب، أو إيفاء العدل الإلهيّ، أو ترضية كرامة الله المهدرة بسبب خطية البشرية غير المحدودة، وغيرها من الأفكار في لاهوت العصر الوسيط التي انتشرت في أوروبا لقرونٍ عديدةٍ، وسبَّبت العديد من المجادلات والمجامع لعلاج المشاكل الناجمة عن هذه التعاليم الخطيرة البعيدة كل البعد عن التعليم الآبائيّ الشرقيّ الأرثوذكسيّ، الذي يُمثِّله في هذا البحث، ق. أثناسيوس العظيم، مُعلِّم المسكونة.
سنحاول في هذا البحث الموجز استعراض أهم ملامح ومفاهيم تدبير الخلاص في تعليم ق. أثناسيوس، ومقارنتها بنلامح ومفاهيم نظرية الترضية والبدلية العقابية في تعليم أنسلم الكانتربري لإبرارز نقاط الاختلاف الشديدة والواضحة بين التعليمين، وردًا على محاولات البعض عن جهل ودون دراسة وعلم ووعي بالدراسات الأكاديمية إلصاق تعليم البدلية العقابية في تعليم ق. أثناسيوس الرسوليّ.
توضيح ﻻزم ﻹنصاف اﻷكاديميا
أود التنويه إلى أن البعض يدَّعي أننا نُقدِّم تعليم غربيّ أكاديميّ غير أرثوذكسيّ، ويبدو أنهم نسوا أو تناسوا أو تغافلوا عن أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أكثر كنيسة استفادت من الإسهامات الغربية الأكاديمية الحديثة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ترجمة كرنيليوس فانديك البروتستانتية الغربية مع البستانيّ للكتاب المقدس، وهي الترجمة المعتمدة حاليًا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وهناك أيضًا مجلدات كتابات آباء ما قبل نيقية ونيقية وما بعد نيقية التي يتهافت الباحثين الأقباط وغيرهم من المترجمين حاليًا على ترجمتها والاقتباس منها بكل أريحية وثقة، وهي في الأساس منتج بروتستانتيّ غربيّ صرف، فالمحرِّر لهذه المجلدات هو فيليب شاف مؤرخ وأستاذ لاهوت بروتستانتيّ، وفريقه من المترجمين لمجموعة المجلدات والمحرِّرين المساعدين أغلبهم بروتستانت غير أرثوذكس،
سأكتفي بهذين المثالين، رغم أن الأمثلة كثيرة جدًا، ولكن حتى لا أطيل على القارئ، سأكتفي بذلك. فالذي يُغفِل الإسهام الأكاديميّ الغربيّ غير الأرثوذكسيّ في العالم المسيحيّ، فهو إمَّا جاهل أو شعبويّ أو مُنافِق أو مُخادِع أو مُدلِّس أو ناكر الجميل والمعروف، وسامحوني في هذه الألفاظ، لأنه كم الخداع والتضليل والتدليس والتجهيل والتغييب وصل لدرجاتٍ غير مسبوقة، نصلي إلى الله أن يغير النفوس، وينير العيون والقلوب لمجد اسمه القدوس.
أود التنويه أيضًا إلى أن النصوص المذكورة في هذا البحث الموجز، سواء للقديس أثناسيوس الرسوليّ أو أنسلم الكانتربريّ، هي بعض من كل، فهناك العديد والعديد من النصوص الأخرى التي تخدم هدف البحث، كما ذكرنا أعلاه، ولكننا أكتفينا بهذه النصوص لتوضيح الفكرة والهدف من البحث للقارئ العزيز.
أنسلم رئيس أساقفة كانتربري
نبدأ حول تعليم الكفارة والفداء عند أنسلم رئيس أساقفة كانتربريّ بإنجلترا، وذلك لمقارنة تعاليمه بتعاليم ق. أثناسيوس عن تدبير الخلاص، لنرى الاختلاف الكبير بن تعليم ق. أثناسيوس عن التعليم الغربي بالترضية وإيفاء العدل الإلهيّ، والإبدال العقابيّ.
يُسمَّى أنسلم أبا المدرسيين الذين درَّسوا في جامعات العصور الوسطى. وكان أنسلم رئيس أساقفة كانتربري في القرن الثاني عشر. وكان واقعيًا. حيث يفترض الواقعيون أن الأفكار والآراء لها وجود في الواقع، بينما أعتقد الأسميون بأن الأفكار أو الأفكار العامة بين جميع البشر هي مُجرَّد أفكار ليس لها أيّ وجود سوى في الفكر. فهم يرون أن الأشياء التي لها أهمية هي الموضوعات الفردية في العالم الماديّ فقط. [1].
وإذ كان أنسلم يقف على حافة نهضة القرن الثاني عشر اللاهوتية، قدَّم إسهامات حاسمة في مجالين من مجالات الدراسة، وهما: البراهين على وجود الله، والتفسير العقلانيّ لموت المسيح على الصليب. [2].
وخلال إحدى الفترات التي قضاها أنسلم في العمل في إيطاليا، بعيدًا عن إنجلترا، كتب ذلك المؤلَّف الذي ربما يُعدُّ أهم مؤلفاته، بعنوان Cur Deus homo لماذا صار الله إنسانًا
. سعى أنسلم في هذا المؤلَّف إلى تقديم إثبات عقلانيّ لضرورة أن يصير الله إنسانًا، بالإضافة إلى تحليل للفوائد التي تعود على البشرية نتيجة تجسُّد ابن الله وطاعته. ومرةً أخرى، يُظهِر هذا المؤلَّف خصائص تنتمي إلى السكولائية في أفضل صورها، ومنها الاحتكام إلى العقل، وحشد الحجج المنطقيّة، واستكشاف معاني الأفكار الضمنية ونتائجها وتطبيقاتها، هذا الاستكشاف الذي لا يلين، بالإضافة إلى القناعة الأساسية بأن الإنجيل المسيحيّ في لبه هو إنجيل عقلانيّ، يمكن إثبات كونه عقلانيًا. [3]
الخطية كإهانة لله وسلب لكرامته
للحديث عن مفهوم ”الترضية“ و”البدلية العقابية“ عند أنسلم الكانتربريّ، ينبغي علينا أولًا الحديث عن مفهوم أنسلم عن الخطية كإهانة لله وسلب لكرامته، الذي نتج عنه مبدأ الترضية، والتعويض، وإيفاء العدل الإلهيّ، والإبدال العقابيّ. حيث يتحدَّث أنسلم عن ماهية الخطية كإهانة لله، وسلب لحقه في الإكرام، وحط من قدره قائلًا: [4]
فمَّنْ لا يؤدي واجب الإكرام هذا لله، يكون قد سلب الله حقه، وحطَّ من كرامته […] وكذلك مَنْ حطَّ من كرامة صاحبه، فلا يكفي أن يرد له الإكرام الواجب، ينبغي عليه أيضًا التعويض الكافي عن طريق ترضيته عن الإهانة. ومن الملاحظ في هذا الشأن أن المغتصِب الذي يرد المال المغتصَب، ينبغي عليه أن يُعطِي شيئًا، لم يُطالِب به، لو لم يعتد على غيره في ماله. وبالتالي، ينبغي على كل مَنْ يفعل الخطية أن يرد لله الإكرام الواجب الذي سلبه. وهذا هو الإيفاء المطلوب من الخاطئ لله.(أنسلم الكانتربري، لماذا تجسد الكلمة)
لا يوجد غفران بدون عقوبة
يتحدَّث أنسلم عن عدم غفران الله للخطية من دون عقاب في موضع آخر قائلًا: [5]
لا يليق بالله أن يغفر خطية من دون عقاب عليها.(أنسلم الكانتربري، لماذا تجسد الكلمة)
مبدأ إيفاء العدل الإلهي
يشرح أنسلم الكانتربريّ مبدأ إيفاء العدل الإلهيّ حقه، ورد كرامة الله المهانة من البشر بسبب الخطية، واسترداد الله لكرامته المهانة بفرض العقوبة على الخطأة قائلًا: [6]
لا يوجد شيء ينبغي الحفاظ عليه عند الله أكثر من كرامة مقامه. […] ثم يتساءل: أنسلم: هل يبدو لك إذَا سمح الله بحدوث هذا النهب، ولم يسترد الشيء المنهوب، ولم يُعاقِب الناهب، أنه بذلك يُحافِظ على كرامته العالية المحافِظة الحقيقية التي لا يشوبها أيّ شيء. بوزو Boso: لا أستطيع قول ذلك. أنسلم: بناءً على ذلك، ينبغي أن يسترد الكرامة المهَانة، أو يفرض العقاب، وإلا لن يسير كل من العدالة والقوة الإلهية في مسارهما، ولا يمكن تصوُّر ذلك على الإطلاق.(أنسلم الكانتربري، لماذا تجسد الكلمة)
ثم يشرح أنسلم بمثالٍ كيفية إيفاء المسيح للقصاص الإلهيّ العادل عوضًا عن البشر المجرمين في حق الله الآب كالتالي: [7]
حيث كان من الصعب لأحد غيره أن يجد منفذًا من حكم القصاص. وكان ابنه الأمين والصادق هذا له مكانة عظيمة عند ذلك الأب، وهو يحب كثيرًا أولئك الأولاد المجرِمين، فأراد بما له من القدرة أن يُصالِح كل الذين يثقون بمشورته مع الأب بعمل خدمة مُرضِية جدًا، لديه واجب أن يعملها في يوم مُحدَّد بحسب مشيئة الأب […] وحيث كان من الصعب على الذين يريدون الخلاص أن يحضروا جميعًا حينما أكمل المسيح ذلك الفداء، كانت قوته موته فعَّالة بهذا القدر، حتى أن غير الموجودين في الزمان والمكان، يُمكِنهم استنتاج ذلك.(أنسلم الكانتربري، لماذا تجسد الكلمة)
توضيح نظرية الترضية لأنسلم
انصب تركيز أنسلم بالكامل على برِّ الله. فالله يفتدي البشر على نحوٍ متسق تمامًا مع صفة بره. وقد كانت أطروحة أنسلم بعنوان Cur Deus homo لماذا صار الله إنسانًا
عبارة عن تناول بارع لمسألة إمكانية فداء البشر، في هيئة حوار ثنائيّ. وفي سياق تحليله، أثبت -مع أن مدى نجاحه في هذا يُعدُّ مثار جدل- كلا من ضرورة التجسُّد، والطاقة الخلاصية الكامنة في موت يسوع المسيح وقيامته من بين الأموات. وقد كانت حجته مُعقَّدة، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
(1) خلق الله البشر في حالة من البر الأصليّ كي يقتادهم إلى حالة من النعيم الأبديّ.
(2) كانت هذه الحالة من النعيم الأبديّ مشروطةً بطاعة الإنسان لله. لكن، بسبب الخطية، صار البشر عاجزين عن تتميم شرط الطاعة اللازم توافره، الأمر الذي يبدو كما لو أنه أحبط قصد الله من خلق البشر من الأساس.
(3) وإذ من المستحيل أن تُحبَط مقاصد الله، لا بد من وجود وسيلة يمكن بها علاج هذا الوضع. لكن، لا يمكن علاج الوضع، إلا إذَا قُدِّمَت ترضيةً عن الخطايا. بعبارةٍ أخرى، كان ينبغي فعل شيء، يمكن من خلاله محو الإساءة التي تسبَّبت فيها خطايا البشر وتطهيرها.
(4) لكن ما مِن وسيلة يمكن بها للبشر أن يُقدِّموا هذه الترضية اللازمة. فالبشر يفتقرون إلى الموارد اللازمة. لكن في المقابل، لدى الله الموارد اللازمة لتقديم الترضية المطلوبة.
(5) ومن ثمَّ، كان من شأن ”الله-الإنسان“ أن تكون لديه القدرة بصفته الله، وأن يكون عليه الإلزام بصفته إنسانًا، بأن يسدّ الترضية المطلوبة. ومن ثمَّ، حدث التجسُّد حتى يمكن تقديم الترضية المطلوبة، وفداء البشر.
تستلزم بعض النقاط السابقة تعليقًا. أولاً، حُسِبَت الخطية هنا إساءةً في حق الله. ويبدو أن حجم هذه الإساءة متناسب طرديًا مع مكانة الطرف المساء إليه. رأى العديد من الباحثين والدارسين أن هذا يوحي بتأثُّر أنسلم الشديد بالمبادئ الإقطاعية التي كانت سائدةً في أيامه، وأنه ربما اَعتبر الله مُعادِلاً لشخصية ”السيد الإقطاعيّ“ أو ”البارون“.
ثانيًا، أُثِيرَ جدلٌ لا بأس به حول أصول فكرة ”الترضية“ Satisfaction. فربما كانت هذه الفكرة مُستمَدة من القوانين الألمانية في تلك الفترة، التي كانت تنص على وجوب محو الإساءة أو تطهيرها عن طريق دفع ثمن ملائم. لكن، يعتقد غالبية الباحثين والدارسين أن أنسلم احتكم في هذا بشكلٍ مباشرٍ إلى نظام التوبة الذي كان متبعًا في الكنيسة. فقد كان الخاطئ الذي يلتمس التوبة يُطالَب بالاعتراف بكل خطاياه. وعند نطق الكاهن بالحلِّ أو الصفح، كان يطلب من التائب أن يفعل شيئًا (مثل الذهاب في رحلةٍ إلى الأراضي المقدَّسة، أو القيام بعملٍ خيريّ) باعتباره ”ترضيةً“ – أي وسيلةٌ علنيةٌ للتعبير عن الامتنان لأجل الصفح. ومن المحتمَل أن يكون أنسلم قد استقى فكرته من هذا المصدر.
لكن، على الرغم من الصعوبات الواضحة التي صاحبت منهجية أنسلم، أحرز من خلالها تقدُّمٌ مهمٌ. فإن إصرار أنسلم على كون الله مُلزمًا كليةً وتمامًا بالتصرف طوال عملية فداء البشر وفقًا لمبادئ العدل والبرِّ، هو أمر مثَّل مقاطعةً حاسمةً لمنهجية ”كريستور ڤيكتور“ (المسيح الغالب)، تلك المنهجية المشكوك في إتباعها المبادئ الأخلاقية السليمة. وبتبني الكُتَّاب اللاحقين منهجية أنسلم، استطاعوا وضعها فوق أساس أكثر ثباتًا، وذلك عن طريق ترسيخها في مبادئ القانون العامة. [8]
ويرى الأب الكاثوليكيّ والتر كاسپر أن أنسلم ينطلق في نظريته عن التكفير أو الترضية من ”نظام الكون“. هذا النظام الشامل المعقول تُعكِره الخطيئة. والإنسان مُسلَّم هكذا إلى الجنون. وهذا الفساد يستدعي التعويض الذي سيكون التكفير. ولو كان الله نفسه يمنح التكفير بمحض الرحمة، لما أرضى ذلك العدل. [9]، فلا بد إذًا من القول: إمَّا التكفير وإمَّا العقاب
[10]. يجب أن يقتضي الله تكفيرًا وتعويضًا. ولكن مقتضى الله هذا يُحبِطه الإنسان. فالخطيئة هي ضد الله اللا متناهي، ولذلك فهي نفسها لا متناهية.[11] ويشرح أنسلم منطقه هذا باستناده خصوصًا إلى مفهوم ”شرف الله“. فقد خُلِقَ الإنسان ليُطِيع الله ويخدمه، ويستسلم له. وقد حاد عن هذه الغاية بالخطيئة. ولكن كلما كان المهَان عظيمًا، عظُمَت أيضًا الإهانة. وشرف الله لا مُتناهٍ، فدَّين الإنسان كذلك لا مُتناهٍ. والتكفير اللا متناهيّ ضروريّ. ولكن الإنسان المتناهيّ غير قادر على القيام به.
وينتج من ذلك أن الإنسان مُلزَم بالتكفير، ولكن الله وحده قادرٌ على القيام به. والتكفير الذي يُعِيد ”نظام الكون“ و”شرف الله“ لا يمكن تحقيقه إلا بمَّن هو في الوقت عينه إلهٌ وإنسانٌ، أي الإنسان الإله. والسؤال: ”لماذا صار الله إنسانًا“؟ يجد هكذا الجواب عنه. ولكن هذا لا يقول بعد لماذا كان على الله أن يصعد على الصليب ليفتدينا. ويُضِيف أنسلم أيضًا أن حياة يسوع في الطاعة لا تكفي للفداء، إذ إن الإنسان مُلزَم من قبل بتلك الطاعة بالخلق. فالتكفير لا يمكن أن يتحقَّق إلا بشيءٍ لا يُلزِم من قِبَل يسوع بكونه إنسانًا. ولا يمكن يكون سوى موته، إذ إن يسوع لمَّا كان بلا خطيئة فهو غير خاضع لمصير الموت. وبما أن يسوع نفسه لم يكن بحاجة إلى هذا التكفير، فالله قادرٌ على أن يجعله موضوع استحقاق لجميع الآخرين. والعجز في ميزانية جميع الآخرين يُسدِّده فيض ما هو عند المسيح. فيسوع أعاد إذًا بموته الطوعيّ التوازن لـ ”نظام الكون“ وحقَّق التكفير عن الجميع.
لا يمكن أن تُفهَم نظرية أنسلم جيدًا إلا إذَا وُضِعَت في إطار الإقطاع الچرمانيّ، في بداية العصر الوسيط. وهذا يرتكز على علاقة الأمانة التي تربط السيد بمَّن هو تحت يده، وهذا يُقطِعه السيد أرضًا مع حمايته التي تجعل له نصيبًا في السلطة العامة. ويتقبَّل السيد منه الوعد بأن يتبعه ويخدمه. والاعتراف بجميل السيد هو إذًا أساس النظام، والسلام، والحرية، والحقّ. وشرف السيد ليس شرفه الخاص، بل هو موقعه الاجتماعيّ الذي يجعله ضامنًا للسلام العام. وكل نيل من هذا الشرف يتضمَّن هدم الحقّ والسلام، وخسارة الحرية، والفوضى. وبطلب هذا الشرف لا يُنظَر إلى الإرضاء الشخصيّ للسيد، بل إلى إعادة النظام الجماعيّ. ويُميِّز أنسلم بالطريقة نفسها شرف الله ”في ما يعود إليه“ وشرف الله ”في ما يعود إلى الخليقة نفسها“. ففي الأمر الأول لا يمكن زيادة أيّ شيء عليه أو إنقاص أيّ شيء منه. أمَّا إذَا كان الإنسان لم يعدّ يعترف بشرف الله، فينهار ”نظام العدالة“ في العالم.
إن انتهاك شرف الله لا ينال إذًا من الله نفسه، بل من الإنسان والنظام وجمال العالم. وليس شرف الله الشخصيّ الذي يُطلَب رده إلى نصابه، بل العالم المشوَّش والمخلَّع، هذا العالم الذي لا يسوده النظام إلا ما دام يحترم شرف الله. وليس الموضوع هنا التعويض عن شرف إله غيور، ولا شأن نظام قانونيّ مُجرَّد، أو ميزانية يجب أن تُوازن. الموضوع هو الاعتراف بشرف الله وإعادته في سبيل الحرية والسلام والنظام، ولأجل أن يُعَاد إلى العالم معناه. [12]
يحاول أنسلم إثبات حتمية حدوث التجسُّد من خلال العقل بدلاً من التقليد والكتاب المقدَّس. وكانت خطة بحسب الظاهر هو أن يُثبِت لليهود والمسلمين تلك العقيدة مُقدَّمةً في صورة حوار ثنائيّ، والمتحاوران هما أنسلم نفسه وتلميذًا له يُدعَى بوزو Boso.
يبدأ أنسلم بالمشكلة التي يحلها التجسُّد: مشكلة الخطيئة. [13] ويُعرِّف الخطيئة على أنها عصيان لله. وأيّ إخفاق في التسليم الكامل لإرادة الله يجعلنا في حالة خطيئة أمامه. وللأسف، هذا ما حدث، فليس هناك ما يمكننا القيام به لتصحيح الوضع، كما يقول أنسلم: [14]
إن أيّ شخص لا يعطي الاحترام الواجب لله، فكأنه يسرق من الله ما ينتمي إليه، وهذه خطيئةٌ. وما هو أكثر من ذلك، طالما أنه لا يُسدِّد ما سرقه من الله، فإنه سيظلُّ مُذنِبًا. وليس كافيًا أن نرد ما سرقه، لأن هذا الشخص أهان الله، وعليه أن يُعيد شيئًا أكثر مما أخذ.(Anselm of Canterbury, Cur Deus Homo)
وقد أقتبس أنسلم هذه الأفكار مُباشرةً من مجتمع العصور الوسطى. فالناس الذين خضعوا للنظام الإقطاعيّ في العصور الوسطى دانوا بالولاء للسيد، وكان عليهم أن يطيعوه، وإنْ لم يفعلوا ذلك فهذه إهانةٌ كبيرةٌ له، وكأنهم سرقوا كرامته وشرفه. وإنْ لم يرد السارق ما أخذه، بل وزيادة، نظرًا لأنه قد تسبَّب في الإهانة، فسوف يُعاقَب. أمَّا في حالة الخطيئة، فيتوجَّه أنسلم لنقطة أننا لا نستطيع أن نُعوِّض الله. فلكي نفعل ذلك، علينا أن نعطيه شيئًا لا ندين به له. لكننا ندين لله بكل شيء، إذ أننا موجودون فقط لأنه خلقنا، وحتى لو لم نكن قد أخطأنا سنكون أيضًا مدينين له بولائنا الكامل وكل شيء نمتلكه. ويسأل أنسلم بوزو السؤال الحاسم: [15]
أنسلم: ما الذي ستُقدِّمه لله من أجل خطاياك؟ بوزو: إذَا كنتُ أنا مدينٌ له بنفسي وبكل شيء حتى وإنْ لم أفعل خطيئةً، ثم بعد أن أخطأت، لم يعدّ لديَّ شيء لأُقدِّمه. أنسلم: ماذا سيحدث لك؟ وكيف يمكنك أن تخلُص؟ بوزو: إذَا أنا فكَّرت فيما قلته لي. لا أستطيع أن أجد أيّ طريق للخلاص.(Anselm of Canterbury, Cur Deus Homo)
وما هو أسوأ قادمٌ. إن عصيان الله هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث. هي جريمةٌ شرها لا نهائيّ. لذا، فلكي نُعوِّض الله عن حقه من الاحترام الواجب، علينا أن نُقدِّم شيئًا ثمينًا يفوق هذه الخطيئة اللا نهائية، وكيف يمكننا فعل ذلك؟ المشكلة هي هنا بما أن الطرف المذنب، أي البشرية يجب أن تُرضِي الله، وهذا ما تعجز عن فعله. في الواقع، أن الله وحده مَن يمكنه فعل ذلك. وهنا يكون الاستنتاج واضح: [16]
أنسلم: إذًا، فالله وحده هو القادر على أن يُقدِّم هذه الترضية. بوزو: هذا ما يتبع ذلك. أنسلم: لكن ليس من أحد سوى البشر يلزمهم فعل هذا، وإلا لن يكون البشر قد قدَّموا هذه الترضية. بوزو: ليس هناك عدل أكثر من هذا. أنسلم: […] حتى إذَا لم يكن أحدٌ سوى الله الذي يمكنه القيام بهذه الترضية، وليس مَن يمكنه غير الإنسان الذي يلزم عليه القيام بها، لذلك يجب أن يكون هناك إله-إنسان لكي يقوم بذلك. بوزو: تبارك الله!.(Anselm of Canterbury, Cur Deus Homo)
ولتنفيذ هذه الخطة يجب أن يكون الله-الإنسان إلهًا كاملًا وإنسانًا كاملًا. وعليه أن يُقدِّم تقدمةً غاليةً لا نهائيةً. ولأنه هو الله، فإن موته له قيمة لا نهائية. لذا، يسمح هذا الله-الإنسان لنفسه أن يموت مُقدِّمًا موته كتعويض عن الإهانة التي لحقت به بسبب البشرية. وهذا يكفي ويزيد لتعويض ما سُلِبَ، ويمكن للبشرية الخاطئة أن تنال الغفران.
نقد نظرية الترضية لأنسلم
إن تعليم أنسلم هو تقرير موضوعيّ عن الخلاص. فهو يرى الخطيئة على أنها دَّينٌ كونيّ، سدَّده الله لنفسه. وتقف البشرية الخاطئة موقف المراقِب لهذه المبادلة بطريقةٍ سلبيةٍ بدون أن تُشارِك فيها [وهذا عكس تعليم الانجماع الكليّ للبشرية في المسيح عند ق. أثناسيوس وآباء الشرق اليونانيّ]. ولا يتحدَّث هذا التعليم عن تغيُّر العلاقة مع الله، ولا الطريقة التي يمكن من خلالها للبشرية الخاطئة أن تتغيَّر إلى حياةٍ أفضل. بالطبع هذه الأمور مهمةٌ لأنسلم، ولكنها لا تلعب دورًا في فكره اللاهوتيّ عن الخلاص بالمعنى الدقيق للكلمة. فبالنسبة له، يُشبِه البشر مجرمون هربوا من حكم الإعدام. وأيّ تغيير لاحق في القلب والحياة الأفضل التي يمكن أن يتمتَّع بها الإنسان تأتي كرد فعل للخلاص، وليست جزءًا من الخلاص ذاته، وهذا يتعارض بشدةٍ مع تعاليم أبيلارد في وقتٍ لاحقٍ، وكذلك مع تأكيدات أوغسطينوس السابقة له.
إن مفهوم أنسلم القانونيّ للخلاص سيكون مُؤثِّرًا جدًا، وسيكون السبب الجذري لتعاليم كلٍّ من لوثر وكالفن عن الكفارة، والذي من خلالهما تأسَّست الحكمة المنزلة للبروتستانتية عمومًا. [17]
صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]