كما كان المسيح، هكذا الأنبا … نقاؤه فضح فساد الهيكل والقصر، نوره بدّد ظلمات الجهل والطائفية، فسكّـتوه، وقتلوه بأيادٍ خائنة.

في ٢٩ يوليو ٢٠١٨، وُجد الأنبا إبيفانيوس مقتولًا داخل في وادي النطرون. إصابات الرأس والعنق لم تكن مجرد ألم جسدي، بل صدمة لم تجفّ في قلب — صدى مقاومة لنقاء لم يُحتمل وجوده في حضرة دين وجسد كهنوتيّ استعبدته السلطة والشعبوية لعقود.

وجوده، مثل معلمه المسيح، كان كشفًا أزليًّا؛ لا حياء في مواجهة الزيف، ولا صمت في وجه الكذب. صمته لم يكن ضعفًا، بل عمقٌ روحيّ يعلو فوق الضجيج السياسي والتزلف الكهنوتي. جعل من يغفو على جبين الطائفية يبدو كاريكاتيرًا من زيفه.

اعتمد على البحث والترجمة، وفتح أبواب التراث السكندري لعامة الناس. صار صوتًا حيًا لوحدة الأرثوذكس بمحبة مع جميع المسيحيّين، وصراخ المظلومين داخل جسد سلطة رهبانية متقدّمة. وعندما بدا الخلاف داخل ديره، تساقطت أقنعة زيف الروحانيات عن صدور من اعتقدوا أنهم يمسكون بخيوط القداسة.

في فجر ذلك اليوم، سُددت ضرباتٌ قوية بأنبوبٍ حديدي على رأسه، فسقط مضرجًا بالدم، في مشهد نطق بصمت صارخ:

نور الحقيقة يكشف الظلم والجهل.

لم يكن هذا مجرّد قتل، بل تشريعٌ لانتصارٍ يقاوم شعبوية الظلام، ينبع من نقاء حقيقة لا تقبل التكميم. فضح وهزيمةٌ للقاتل ومَن ساندوه ودعموه وأوصلوه إلى هذا القرار.

نهاية إبيفانيوس كانت حصادًا لنقاء لا يُحتمل، وإيمانًا بحروف رفضت أن تتلوها أفواه الخوف. ومنذ ذلك الحين صدر حكم بالإعدام شنقًا ضد راهبٍ، وسجن مؤبد لآخر — ولأول مرة في تاريخ الكنيسة الحديثة يُدان راهب بقتل أسقف. ومع ذلك، ظل إرثه أقوى من القتل: ترجمات رسمت نصًا يُعتدّ، مداخل إصلاحية تشرع باب التغيير، ومكتبة أنارت دروب مئات الباحثين حول العالم بحضور يحفظه التواضع والمحبّة.

ذاك الغياب لم يُمحِ أحدًا، بل ترك خلفه رجلًا عاش نقدًا ومحبة وإصلاحًا لم يرضَ بالراحة الروحية من دون تحرير من ظلم الجهل، وروحانيّة الزيف. علّمنا أن النقاء لا يُقمع، أن سلطة الأسقف تكمن في خدمته الآخرين، وأن السلطة إن انحنت نحو القمع فقدت بسيفها ذاتها.

قتلته طائفيةٌ داخل نفس جسد الكنيسة — لكنه ظل عالمًا نبيًّا عاش رمزًا لضمير أمّة. نورُه لا يُطفأ، وصمته كشف ما كانت تخفيه المقدّسات الرسميّة. هو اليوم صوت المحبة، وقوّة العدالة، ورقة الخدمة الأسقفية التي تركع أمام الآخرين. نور إبيفانيوس لا يخاف الصمت، يغشّي أنظار الجهلاء، بلا حقد، برقّة إنسانيّة لا تُحتمل. يُلقي إبيفانيوس بعد رحيله القلق في قلوب الظالمين الحجر.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چون جبرائيل الدومنيكي
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎