المقال رقم 6 من 6 في سلسلة عن لا مؤاخذة الليبراليين

الرياء واحد من أكثر الأمور إثارة للضيق والغيظ. أن يتظاهر الإنسان بما ليس فيه. أظهر الرب يسوع في العادة تسامحًا وتفهمًا مع الضعف البشري، للدرجة التي جلبت له ملامة المتزمتين. ومع لطفه، كان لاذعًا وصداميًا مع المتشددين دينيًا، واصفًا إياهم، ضمن مجموعة من الأوصاف القاسية، بالرياء وقساوة القلب.

وقساوة القلب أخطر من الرياء. فالمرائي يعرف أنه يتظاهر بما ليس فيه، مستغلًا مظهر التقوى لتحقيق منفعة أو صيت، أو لاستغلال من حوله. أما قاسي القلب، في ظني، فهو من خدع نفسه فظن ما ليس فيه، لذا تجده يعيش حالة من التعالي والاطمئنان لتقوى مفترضة تجعل الإنسان غير مدرك لضعفه وانعزاله عن الآخرين بدعوى التميز الأخلاقي، أو الحفاظ على القداسة والتطهر من مخالطة الأشرار.

لام يسوع في أكثر من موضع دينونة الآخرين، وكان هو نفسه مخالطًا للخطاة والبعيدين. قد يقول البعض، أنا لست كيسوع، وأحتاج أن أحمي نفسي بالابتعاد عن الخطاة. ولكن، ألسنا جميعًا مدعوون للتشبه به؟ وألسنا جميعًا خطاة نحتاج إلى الاتضاع وطلب الرحمة كما طلبها العشار قائلًا: اللهم ارحمني أنا الخاطئ؟ [1]

الانعزال عن الآخر قد يبدو الخيار الأكثر قداسة وتكلفة؛ ألا نختلط بمن لا يشبهوننا ولا يشاركوننا إيماننا، ونكون شعبًا مقدسًا للرب.

في النهاية، توجد وصايا كتابية تتعلق بهذا الأمر. لكن في نفس الكتاب المقدس توجد إدانة واضحة لشعب الرب إن هو تكبر وانعزل ونسي أنه مدعو للتميز فقط ليكون بركة للآخر.

في سفر عاموس يقول الرب لبني إسرائيل أنهم لديه مثلهم كاليين (سمر البشرة في الجنوب من كان يُظن أنهم عبيد)، وأن الرب لم يحرر إسرائيل فقط من عبودية مصر، لكنه حرر / أصعد من اعتبرهم بنو إسرائيل أعداء. يقول الرب في عاموس: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور، والآراميين من قير؟ [2]

إن الصعود، الخروج والحرية من أرض العبودية في مصر كانت هي تجربة الخلاص المُميَّزة والمُميِّزة لشعب الرب في القديم. وكأن الرب يقول لشعبه أن خلاصي متاح للجميع، حتى لمن لا يعتبر فقط من خارج دائرة الشعب المختار، لا بل من الأعداء المقاومين للشعب. الجميع لله، وهو رب واحد لكل إنسان. الخلاص عطية لا مجال للتفاخر بها على الآخرين.

هل لو كتب عاموس لنا اليوم، كان ليدين تفاخر كنيسة على أخرى؟ هل كان ليدين تفاخر المسيحيين بمسيحيتهم وخلاصهم؟ أو يدين تفاخر “المحافظين” على “الليبراليين”؟ أظنه كان ليفعلها!

بينما يبدو الموقف الانعزالي/ التقوي خيارًا روحيًا ساميًا، يظل مثال يسوع في الانفتاح على الآخر والتعاطف معه ومشاركته الحياة هو الموقف الذي يحتاج فعلًا إلى نضوج ورسوخ في المعرفة والإيمان.

يقدم لنا اللاهوتي المتميز ميروسلاڤ ڤولف في كتابه Exclusion and Embrace: A Theological Exploration of Identity, Otherness, and Reconciliation [الإقصاء والاحتضان: استكشاف لاهوتي للهوية، والاختلاف، والمصالحة] صورة عن هذا التواصل، الرحلة التي يخرج فيها الإنسان من نفسه متجهًا نحو الآخر، فيشبه الأمر بالحضن.عندما تحتضن إنسانًا [3].

فإنك تحتاج أن تأخذ بعض الخطوات: تقترب من الآخر، تفتح ذراعيك علامة على القبول وإعطاء الأمان، تحتضن الآخر ملتصقًا به ومتغيرًا بهذا التقارب والتماس، تنزل ذراعيك من حول الآخر في النهاية لتعود إلى مكانك مغتنيًا بالخبرة والقوة التي أخذتها من هذا الاحتضان.

(ميروسلاڤ ڤولف، الإقصاء والاحتضان)

يفسر ڤولف هذا المثل فيشرح أننا ونحن فاهمون لهويتنا وموقفنا، نستطيع أن نتجه نحو الآخر ونحتضنه بقلب وعقل مفتوح. إن فعل الاحتضان هذا لا يعني ذوباننا في الآخر، ولا محاولة دمج الآخر فينا، إذ أننا في النهاية نحتاج إلى أن نرخي أذرعنا ولا نخنق الآخر. وفي هذه الرحلة نرجع إلى مواقعنا بفهم أفضل وأنضج لأنفسنا وللآخر.

إنك لا تحتاج إلى كثير من النضوج ولا التقوى لتنعزل عن الآخرين وتبدأ في نقدهم واتهامهم. لكنك تحتاج إلى الكثير من الثقة في إيمانك، والتعمق فيما تعتقد لتكون لديك القدرة على التواصل والتفهم والتأثير.

إن الراسخين حقًا في إيمانهم هم المتواضعون الفاهمون أن أعماق المعرفة والخبرة الروحية لا تنتهي، وأننا في رحلة تعلم وتشكل ما دمنا في هذه الحياة.

هذا الخروج من الذات والرغبة في فهم الآخر واحتضانه ليست علامة على التذبذب أو الميوعة في الموقف، لكنها بالأكثر تواضع من يعرف أن الحق يحتوينا وأننا لا يمكن، مهما ادعينا الفهم، أن نحتوي الحق.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. إنجيل لوقا 18: 13. [🡁]
  2. عاموس 9: 7. [🡁]
  3. Miroslav Volf, Exclusion and Embrace: A Theological Exploration of Identity, Otherness, and Reconciliation, Abingdon Press, 1996 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ عن لا مؤاخذة الليبراليين[الجزء السابق] 🠼 عقلك البطيء
چورچ مكين
[الموقع الشخصي]   [ + مقالات ]