المقال رقم 5 من 5 في سلسلة عن لا مؤاخذة الليبراليين

لما بنحب نصف أحدهم بالبلادة والغباء، بنتكلم عن فهمه البطيء. والعكس صحيح.

لكن في عالم نفس ومتخصص في الاقتصاد، دانيال كانمان، واللي حصل على جائزة نوبل عام ٢٠٠٢ لأبحاثه في السلوك الاقتصادي، أعاد التقدير للتفكير البطيء.

في كتابه الممتع Thinking: Fast and Slow، بيتكلم كانمان عن إيه اللي بيخلي الناس تختار اختيارات معينة، إيه اللي بيكّون قناعاتنا وأحكامنا والقرارات المصيرية في حياتنا.

الكتاب بيتكلم إن داخل كل إنسان في نظامين للتفكير، النظام رقم واحد هو السريع، والنظام رقم ٢ هو النظام البطيء [1].

النظام السريع هو النظام اللي بيعتمد على الحدس، ردود الفعل التلقائية والغريزية اللي تخليك تجري لو شفت خطر، أو تتلفت لو حد نده على اسمك، أو تجاوب فورًا لو حد سألك عن حاصل ضرب ٢ × ٢.

النظام البطيء هو النظام اللي بيحلل، بيسأل، وبياخد وقته علشان يطلع بنتايج… هو حركة عينيك لفوق، وسرحانك للحظة لو سألتك عن حاصل ضرب ١٣٧ × ١٧. هو السؤال اللي أحيانًا بتسأله فتنجو من قرار أو حكم خاطئ: ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟

القضية إننا في احتياج للتفكير السريع، ده بيعتمد عليه وجودنا ونجاتنا. لو سمعت صوت زئير أسد، وقعدت تحلل إذا كان الصوت ده فعلا لأسد، وما مدى قربه منك، هتموت. التفكير السريع هو اللي بيدفعك للهرب وقت الخطر، للتجاوب السريع اللي حافظ على وجودنا كبشر.

ومع أهميته، التفكير السريع ليه عيوب، إنه بيتأثر باللي بنتعرض له. اللي هتشوفه وتسمعه أكتر هيكون هو “الحقيقة” بالنسبة لك، هتكون متحيز لأفكار وتصورات غير منطقية فقط حتى تضمن لنفسك نوع من اليقين في مواجهة صعوبات الحياة أو ظواهرها المعقدة. لأن العقل السريع مهم لحياتنا، فهو تطور ليعمل بشكل يطغى على العقل البطيء، وبدون مجهود وقرار اختياري، أو نتيجة موقف بيضطرك لاستخدامه.

العقل البطيء بيختار إنه ينام ويقبل تفسيرات وقرارات العقل السريع المبنية على معلومات سطحية وخبرات وانفعالات عاطفية وحقائق غير كاملة.

كل إنسان فينا بيحتاج لقصة تفسر حياته وسبب وجوده. الموضوع ده مش مرتبط بعميقي التفكير أو اللي بيحبوا التفلسف، لكنه احتياج إنساني عام.

إنت محتاج إطار يفسر لك إيه اللي بيحصل حواليك، إنت عايش ليه وبتعمل إيه. العقل السريع ممكن يوفر لك القصة دي بسهولة. فلو في صعوبات وهزايم في حياتك أو على مستوى الجماعة يسهل عليك تقبل نظرية المؤامرة وإن العالم كله ضدك.

لو حد بيدفعك لكراهية والعنف، وإنت في احتياج للتنفيس عن غضب أو الإحساس بقيمة تفتقدها، العقل السريع بيخليك تشتري فكرة الدفاع المقدس عن دين أو قضية… إلخ.

لما العقل البطيء، العقل النقدي يتدخل، ويسأل أسئلة حقيقية عن معنى وفايدة اللي أنا بعمله، وقد إيه أنا مسؤول عن قراراتي واختياراتي، وهل كل اللي بسمعه وأشوفه صحيح… لما ده بيحصل، بتقدر توصل لإطار وقصة حياة أنضج وأفضل، وقرارات مش بيتحكم فيها السوشيال ميديا والإعلام والتحيزات الشخصية…

بس للأسف ده مش بيحصل كتير نتيجة صعوبة تشغيل العقل البطيء، وللي بيحصلهم وا غالبًا عرضة للنقد والهجوم من الآخرين اللي قرروا يمشوا بس ورا العقل السريع وقصصه المنسوجة من اللي بيشوفه ويسمعه، مش اللي بيفكر فيه ويحلله.

لما المرة الجاية تسمع إن رجل في قيمة وعذوبة المرنم ماهر فايز، هذا المبدع اللي عمل ترنيمة أصبحت النشيد القومي للمسيحيين في تجمعاتهم ونهضاتهم “زيدوا المسيح تسبيح”، واللي قال فيها: قولوا قام، والموت ملهوش سلطان، ومفيش إلا بدمه الغفران. لما تسمع حد، بجهل أو حقد أو بمزيج من كليهما، بيدعي عليه إنه خارج الإيمان، شغل عقلك البطيء واسأل ليه وإزاي، قبل ما تقع في خطية غبية ومخزية زي إنك تسيء لقيمة وقامة خادم زيه.

فكر في كم خادم ومفكر حاولوا يتواصلوا مع الشباب ويحثوا الناس على التفكير وتمت مهاجمتهم وشيطنتهم واسأل نفسك هل اللي بيتقال صدق، وليه؟

لما تسمع إن نظرية علمية هتهدم الإيمان، وإن كل اللي يصدقوا فيها أشرار أو ضد المسيح. شغل عقلك البطيء، وافتكر إن لما اتقال إن الأرض كروية ومش مركز الكون فيه اللي قال إن الإيمان هيتهد.

لما ناس ناضلت لتحرير العبيد قالوا ده ضد النظام اللي حطه الله.

لما أُعطيت للمرأة حقوقها اتقال هيعم الفساد.

لكن المجتمعات اللي اتقدمت هي اللي دافعت عن العلم والعلماء، حررت الناس من العبودية ودفعت التمن، قوّت المرأة وأعطتها حقوقها… كل ده حصل والإيمان متهدش.

شغل عقلك البطيء وافتكر إن في مؤمنين وكارزين مخلصين لا يروا أي تعارض أو تناقض بين العلم الحديث والكتاب المقدس، ولا يحتاجون إلى لوي النصوص واختراع الحجج ليعيشوا وفقًا لإيمانهم وفي قبول وتشجيع للعلم.

لما تسمع اتهام وتصنيف، ده ليبرالي وده محافظ… شغل عقلك البطيء واسأل إيه معنى ده، ومين عايش لهدف ورسالة، ومين بيشارك في هتافات وكلام لا معنى ولا هدف له…

شغل عقلك البطيء علشان اختياراتك وأفكارك تكون أكثر إنسانية وأكثر إيمانًا.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. Daniel Kahneman, Thinking: Fast and Slow, Straus and Giroux, 2013 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ عن لا مؤاخذة الليبراليين[الجزء السابق] 🠼 أنا أعظم المتواضعين
چورچ مكين
[الموقع الشخصي]   [ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎