المقال رقم 4 من 4 في سلسلة عن لا مؤاخذة الليبراليين

التواضع فضيلة عظيمة، لكن التحلي بها ليس سهلًا.

عصر السوشيال ميديا جعل الأمر أصعب، حيث تحول كل واحد فينا فجأة لصاحب رأي وقدرة مُتَخيلة على التأثير. رغبة الإنسان الملحة في التقدير وفي الشعور أن رأيه له قيمة يدفعه لمشاركة آراء وتبني وجهات نظر دون أن يفحصها، أو الاندفاع لإصدار أحكام نهائية والاشتراك في إدانة أشخاص ربما لم نقابلهم يومًا.

في المجال الديني والروحي، يسهل مُداراة هذا الفراغ ونقيصة الكبرياء خلف ستار زائف من التواضع.

فتصير نقيصة دينونة الآخرين وكأنها مواجهة لغير المؤمنين. ومشاركة أكاذيب أو أقاويل لم يتم التحقق منها، وكأنها إعلان للحق. والتفاخر بالجهل، بمشاركة تعليقات وأحكام والتعليق على أفكار لم نشتغل على فهم معناها وخلفيتها، وكأنه خضوع لسلطان المعرفة الحقيقية.

إن من يبنون معرفتهم على سماع بعض الأشخاص أو متابعة بوستات الفيس بوك أو حتى القليل من القراءة يميلون إلى الإحساس أنهم امتلكوا المعرفة.

كلما عرف الإنسان أكثر، امتلأ إحساسًا بعجزه أمام الكثير الذي لم يعرفه بعد، وكلما زاد عمقًا أدرك لا محدودية الأعماق المفتوحة أمامه. لذا إن وجدت شخصًا غير قاطع في أحكامه، متهيب في إصدار آرائه، غير متسرع في نشر فكرة قبل أن يفحصها ويكثر من السؤال عنها، فأنت في الغالب أمام شخص نجى من كبرياء الجهل ولا يستر نفسه بالتواضع المزيف.

إن الباحثين الجادين عن الحق يدركون أن الحق يمتلكهم، ولا يملكون هم الحق. يعرفون أن الحق كامل، لكننا ناقصين مهما علت معرفتنا، ومحدودين أمام ما هو مطلق. هم يعرفون أنهم جزء من عمل الله، الذي له طرق وأناس غيرهم، وأنه من التجرؤ الجاهل الوقح أن تتصور أنك أو من يشبهونك وحدكم الممثلين لله بعظمته وغير محدوديته!

يخطئ البعض عندما يعجز عن رؤية هذا التواضع، فيظنه تسيبًا أو عدم اهتمام بالحق، بينما يرى في التسرع لإدانة الآخرين وتبني مواقف دون التثبت منها شجاعة الإيمان. لم تندم الكنيسة يومًا على وقوفها بجانب المظلومين، وقبولها للمختلفين وفتح أبوابها للجميع. لكنها ندمت واعتذرت عن مطاردة العلماء، وإحراق المختلفين في الرأي وعدم المبادرة في تبني أفكار إصلاحية ودعم من يعملون من أجلها.

يذكر لنا الكتاب المقدس قصة الخلاف والمواجهة بين قامتين كبطرس وبولس.

في وقت كان على الجماعة المسيحية الناشئة أن تتخذ موقفًا وجوديًا بدعوة غير اليهود إلى الإيمان المسيحي، دون إلزامهم بالشريعة اليهودية، خاف بطرس من إدانة قادة الكنيسة اليهودية له، فتوقف عن الأكل مع غير اليهود من المؤمنين في وجودهم. ويذكر بولس أنه وبخه على هذا الموقف، لكننا لم نجد بطرس وهو يندفع فيشهر ببولس أو يتهمه بالتفريط في الحق الأصيل واتباع الليبراليين.

هل كان يمكن أن يختلف بطرس وبولس اليوم حول قضايا مثل رسامة المرأة، التواصل مع غير المسيحيين، ترجمات الكتاب المقدس أو علاقة النص الكتابي بالعلم الحديث؟ ولو كانا اختلفا اليوم، كيف كان خلافهما ليكون وأية لغة ومنطق كانا ليستخدماها في مواجهتهما؟

الإجابات كثيرة، لكن ليس من ضمنها بالتأكيد قاموس التخوين ومشاركة الأكاذيب وإطلاق أحكام التكفير والتخوين.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ عن لا مؤاخذة الليبراليين[الجزء السابق] 🠼 آلام المحافظين!
چورچ مكين
[الموقع الشخصي]   [ + مقالات ]