في تَذْكار نياحة الأنبا شنودة البطريرك السابع عشر بعد المئة حسب تعداد بطاركة الكرسي المرقسي الأرثوذكسي، تصبح فرصة جيدة للتعلم من حياته وإنجازاته وأخطائه كما تعودنا في الكنيسة، وحيث أننا في عالم نسبي بحت بلا حقائق أو رؤى مطلقة، فقد تراوح المدح والذم أقصى اليمين وأقصى اليسار، فما تراه أنت خطأ يراه غيرك جريمة، وما تراه أنت معجزة يراه الآخرون عاديًا، وما أراه أنا عوار في السياسة الإدارية يراه ضحيتها ظلمًا سافرًا.
لكن ما لم أتخيله أبدًا، إن عاقلًا في عصر التطور العلمي والفلسفي والتكنولوجي يجلس على كرسي رعاية تصدر منه كلمات، مثل تلك التي صدرت على صفحة الفيسبوك المنسوبة لأسقف عام منطقة وسط القاهرة.
تلك الكلمات التي تستحضر إلى ذهني -كعاشقة لكلمات وقصص الكتاب المقدس- هتاف أهل مدينة أفسس ضد بولس الرسول
فَلَمَّا سَمِعُوا امْتَلأُوا غَضَبًا، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الأَفَسُسِيِّينَ!».(سفر أعمال الرسل ١٩: ٢٨)
فالأسقف الجليل لم يتورع -في كلماته المنسوبة له على صفحته الشخصية- عن أن يحقق أعظم مخاوفنا التي انتقدنا الكثيرون عليها عندما أشرنا إلى انتشار عبادة بعل وثنية في ثياب مسيحية، فهو ربط بين صحة الإيمان وتقديس البطريرك السابق وجعل عصمته وتنزيهه عن النقد شرط من شروط صحة المعتقد. وكأنه يهتف في آذان أي من تسول له نفسه الإشارة بالسلب إلى اسم البابا شنودة قائلًا: “عظيمة هي أرطاميس وَسْط القاهرة”.
ويبدو أن الهتاف وصلت أصداؤه عبر القطر المصري إلى محافظة المنيا، فخرج أسقفها يحيي الذكرى المنشودة بكلمات عاقلة بعيدة عن وثنية الشنودية. والحق يقال، فقد أدى الأنبا مكاريوس عملًا جليلًا في الحفاظ على الإيمان المسيحي القبطي من الانهيار، حيث أشار بكل جرأة إلى أن الأنبا شنودة إنسان له أخطاء.
ولا تستهن بإعلان بديهي مثل هذا، ففي ظل تصاعد حدة لهجة الإرهاب من أنصار الشنودية فهو تصرف يحتاج شجاعة كبيرة. ولكني أعتب عليه أنه وضع هذا الانحراف العقيدي الفج تحت مسمى المبالغة في الثناء. عذرًا يا أنبا مكاريوس، المبالغة في الثناء تنطبق على باقي أجزاء كلامك في إحياء ذكرى الأنبا شنودة. فأنت تبالغ من باب الحب، التقدير، القناعة الشخصية، في تمجيد شخصه وأعماله وهذا بديهي ومقبول. فكلنا كبشر نفعل ذلك مع أحبائنا بدرجة من الدرجات، أنا نفسي فعلت ذلك فعلًا في وقت نياحة البابا شنودة وكتبت قصائد في رثائه رآها البعض أنها مبالغات. لكن ما صرح به أسقف وَسْط القاهرة ليس بالهين لنمر عليه مرور الكرام بأنه مبالغة، فهو عوار تعليمي وثني متكرر خارج من شخص برتبة أسقف تدعي المؤسسة الكنسية قدرته على تسليم التعليم الأرثوذكسي. هذه كارثة!
وقد تأصل هذا الانحراف التعليمي في كثير من الشعب، يكفي أن ترى جحافل الردود العنيفة التي تصل إلى حد الإرهاب والسباب الذي يطال منتقد البطريرك شنودة وأهله لتتخيل حجم الكارثة.
ولتقريب الصورة، تخيل أنك تتحدث لمجموعة من الناس وتخبرهم أن داود النبي زني بـ”بيتشبع” وقتل “أوريا الحثي”، فتجد جحافل الناس تسبك وتتهمك بالانحراف عن الإيمان لأنك قلت إن داود زانيًا قاتلًا!
هذه الردة جعلتنا نشكر الأنبا مكاريوس على كلماته البديهية جدا، وأقل من عادية، في إشارته إلى إنسانية البابا شنودة وكونه أخطاء بالضرورة وليس فوق النقد أو الانتقاد، هذه الردة جعلتنا نحتفي بكل من يبتعد عن شيطنة المختلف معه إلى حد إخراجه من حظيرة الإيمان وتكفيره، هذه الردة لا يقودها فرد من العوام بل يقودها مجموعة من التعاليم الصادرة من فم أساقفة!
فهل ننتظر إنشاء مجمع شنودي في مواجهة مجمع كنيستنا الأرثوذكسية؟ أم نتحرك مثلما تحرك الأنبا مكاريوس على استحياء في مواجهة العوار؟ إن قررت عدم التحرك فلا تمنع المتحركين.
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟