في كتابها المثير للجدل، الصادر عن جامعة نيويورك عام 2025، بعنوان “شهداء ومهاجرون: الأقباط وسياسات الاضطهاد في الإمبراطورية الأمريكية”، تقدّم الباحثة الأمريكية دراسة إثنوغرافية جريئة تتقاطع فيها الأسئلة اللاهوتية بالسياسية، والهويات الدينية بالموقع العرقي والاجتماعي للمهاجر القبطي في الولايات المتحدة. لا يكتفي الكتاب بتوثيق أحوال المهاجرين الأقباط بين صعيد مصر ومدن أمريكا، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يُخضع مفهوم “الاضطهاد” نفسه للتشريح، كأداة في صناعة التضامن الديني الإمبراطوري، وكوسيلة لاستثمار دماء “الشهداء” في إعادة رسم خريطة القرابة المسيحية عبر الأطلسي.

اقتصاد الدم:

كيف يُستثمر شهداء الأقباط في الخطاب الأمريكي؟

في كتابها، تطرح الباحثة كانديز لوكاسيك مفهومًا لافتًا بعنوان “اقتصاد الدم”، تصفه بأنه منظومة لاهوتية-سياسية يُعاد فيها إنتاج الدم القبطي المسفوك ل من أشكال القيمة الرمزية. بحسب لوكاسيك، فإن هذا الاقتصاد لا يقتصر على تأبين الشهداء أو إحياء ذكراهم، بل يتعدى ذلك إلى تحويل دمائهم إلى رأس مال رمزي يُستثمر في صناعة التضامن المسيحي الإمبريالي، ويُستخدم لإعادة تشكيل خرائط الانتماء والقرابة بين الشرق والغرب.

هذا الاقتصاد الثيولوجي السياسي يتضمن تشكيل الجماعة المسيحية، كما يشمل إدارة علاقات القرابة وغير القرابة من خلال تقييم الدم – سواء كشهيد أو كمهاجر.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون: الأقباط وسياسات الاضطهاد في الإمبراطورية الأمريكية)

ترى الكاتبة أن دماء الشهداء الأقباط باتت تُقدّم إلى الجماهير الأمريكية المحافظة بوصفها دليلًا دامغًا على “اضطهاد الإسلام للمسيحية” في ال، بما يعزز سردية راسخة في الخطاب الإنجيلي مفادها أن “المسيحية في خطر عالمي”، وأن على الولايات المتحدة -بوصفها حامية الإيمان- أن تتحرك. وهكذا، تُعاد صياغة مأساة الشهداء الأقباط داخل مشهد أمريكي يرى نفسه وصيًا على “المضطهدين في الهلال الإسلامي”.

تمت إعادة تخيُّل الشهادة القبطية وتقييمها ضمن مشهد مسيحي أمريكي، يتخيل المسيحية -في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم- على أنها مهددة ومهمشة ومضطهدة.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

ولعل المثال الأبرز على هذا التوظيف ما رصدته الكاتبة من استخدام صورة الشهداء الأقباط الذين قُتلوا في ليبيا عام 2015، في تغريدة كتبها الكاتب الإنجيلي إريك ميتاكساس عشية اقتحام الكابيتول عام 2021. فقد نشر صورة الشهداء وهم راكعون على الشاطئ قبيل إعدامهم، وكتب: ما الثمن الذي أنت مستعد أن تدفعه لما تؤمن به؟، في مقارنة مباشرة بين ومناصري الذين خرجوا في هجوم سياسي داخلي. وهنا تُعلّق الكاتبة بمرارة:

صورة الشهداء تُعاد قراءتها ضمن سياق أمريكي داخلي، حيث يصبح المهاجمون على الكابيتول أشبه بشهداء ، وكأن الطرفين يواجهان الاضطهاد ذاته.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

في نهاية المطاف، ما تكشفه لوكاسك هو أن دماء الشهداء الأقباط لم تعد مِلْكًا لجماعتهم الدينية أو الوطنية فقط، بل أصبحت أداة توظيف في خطاب إمبراطوري أمريكي يسعى لتوسيع نفوذه الروحي والسياسي عبر العالم. وهكذا، يتم استدعاء الشهادة لا لتكريم الضحية، بل لتكريس حدود “نحن” و”هم”، ولتعزيز سرديات الهيمنة باسم الدفاع عن الإيمان.

القرابة المسيحية الجديدة، العابرة للإمبراطورية، تتشكل فوق دم الشهداء، لكنها في الوقت نفسه، تفصل بينهم وبين غيرهم بحدود الدم نفسه.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

القرابة الدينية العابرة للحدود:

تقاطع التضامن والوهم

تتتبع الباحثة كانديز لوكاسيك ما تصفه بـ”القرابة الجيو-لاهوتية”، وهي شكل من أشكال الانتماء الديني العابر للحدود، الذي يقوم على مفهوم “وحدة الدم المسيحي”، كما يتجلى في خطابات ال مثل قوله: “لا فرق بين الكاثوليك أو الأرثوذكس أو الأقباط أو ال… دمهم واحد ويشهد للمسيح”. لكن، ما تشير إليه الكاتبة هو أن هذه الوحدة اللاهوتية لا تصمد أمام اختبارات الواقع الاجتماعي والسياسي في أمريكا، حيث سرعان ما يصطدم القبطي المهاجر بحدود هذه القرابة المفترضة.

ففي حين يُحتفى بالمهاجر القبطي باعتباره “رمزًا للمسيحية المضطهدة”، خصوصًا في دوائر الإنجيليين المحافظين، إلا أن المجتمع الأمريكي الأوسع، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، لا يراه كذلك. بل يُعامَل بوصفه جسمًا غير أبيض، غريبًا، ينتمي إلى الشرق الأوسط، وربما يحمل في طياته تهديدًا أمنيًا.

القرابة الدينية التي تحتفي بالشهادة القبطية تظل مشروطة بالدم المسفوك، لكنها لا تمنح صاحب هذا الدم نفس الاعتراف في الحياة اليومية، حيث يتعرض القبطي للتمييز نفسه الذي يطال المسلمين والعرب.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

تتفاقم هذه الهوة حين يبدأ القبطي في إدراك أنه قد يكون “أخًا في الإيمان” لكن ليس “أخًا في العِرق”، وأن التضامن المبني على الشهادة لا يُترجم إلى مساواة في التعامل داخل المجتمع الأمريكي. إذ غالبًا ما يُختزل في صورة “العربي”، بل والأسوأ، “المسلم المحتمل”، في ظل إرث ما بعد 11 سبتمبر.

عمليات تصنيف الأقباط داخل الولايات المتحدة لا تقوم على كونهم مسيحيين بقدر ما تُقاس بأجسادهم، وألوان بشرتهم، ولهجاتهم، التي تُدخلهم ضمن مشهد الشرق الأوسط المسلم المشبوه.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون(

في هذا السياق، تُصبح القرابة الدينية المعلنة أشبه بوهم: خطاب يُستحضر في لحظات الشهادة، ثم يُتجاهل في لحظات الحياة اليومية. تؤكد الكاتبة هذا التناقض حين تقول:

بينما يوظف السياسيون الأمريكيون دم الشهداء لتأكيد وحدة المسيحية العالمية، تُترجم هذه الوحدة عمليًا إلى علاقة غير متكافئة، تعيد إنتاج التراتب الإمبراطوري بين الغرب والشرق.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

في النهاية، تدعو الكاتبة إلى فحص نقدي لفكرة التضامن الديني العابرة للحدود، وتُحذر من اختزال الآخر “الشرقي” في صورة شهيد فقط، في حين يُنكر عليه حقه في الانتماء الكامل والاعتراف الإنساني. فحين يتحوّل الشهيد إلى رمز، يُمحى الإنسان.

الدم يربطهم، نعم، لكنه يفصلهم أيضًا.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

الاضطهاد بين الحقيقة والتضخيم:

تفكيك السردية السياسية

من أبرز ملامح الإسهام النقدي في كتاب كانديز لوكاسيك، أنها لا تتعامل مع “الاضطهاد المسيحي” كمسلّمة أخلاقية أو دينية، بل تحاكمه كفكرة تم تحويلها إلى شعار سياسي في الولايات المتحدة منذ التسعينيات، تحديدًا مع صعود التيارات الإنجيلية المحافظة. فقد أصبح “الاضطهاد” عملة رمزية يُستخدم فيها الألم القبطي في مصر لخدمة أجندات التدخل الخارجي، وحشد الناخبين الإنجيليين، وتبرير الخطاب الإمبراطوري الذي يربط بين حماية المسيحيين والسيطرة الجيوسياسية.

تشير المؤلفة إلى أن هذه السردية تضخّمت في دوائر صنع القرار والكنائس الأمريكية عبر منظمات مثل Open Doors أو Voice of the Martyrs، التي قدمت الأقباط باعتبارهم “دليلًا حيًّا على أن المسيحية تتعرض لأكبر موجة اضطهاد في تاريخها”.

منذ الثمانينيات، أصبح موت الأقباط مفهومًا ومقروءًا لدى الجماهير الأمريكية -خصوصًا الإنجيليين- من خلال المخيلة الأخلاقية العالمية لفكرة ‘الكنيسة المضطهدة'.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

وتذهب الكاتبة إلى أبعد من ذلك، حين تُظهر أن هذا الخطاب، رغم تبنيه لألم المسيحيين، لا ينطلق من تحليل حقيقي للسياقات المحلية في مصر، بل يعيد إنتاج صورة نمطية عن “مسلمين مضطهِدين” و”مسيحيين ضحايا”، وهي صورة تُستخدم لتغذية سياسات الخوف والإقصاء في الداخل الأمريكي أيضًا.

الصور والخطابات حول اضطهاد الأقباط تُستخدم في صناعة روايات حضارية عن الاختلاف الديني والنزاع الطائفي، ويعاد تصديرها إلى الداخل المصري ذاته لتغذية مزيد من الانقسام.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

أما على مستوى اللجوء، فتُظهر الكاتبة كيف أن كثيرًا من طلبات الهجرة أو اللجوء تُبنى على استدعاء هذه السردية السياسية، سواء بتشجيع من المحامين أو المنظمات الكنسية في أمريكا، مما يؤدي إلى “تسييس المعاناة الشخصية”، وجعلها قابلة للتفاوض في غرف المحاكم أو عند ضباط الهجرة. وتعلّق الكاتبة على هذه المفارقة بقولها:

حين يذهب الأقباط إلى السفارة الأمريكية، يقولون إنهم يهاجرون بسبب الاضطهاد… لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا، لأن هذه السردية باتت مفتاحًا للعبور أكثر من كونها توصيفًا دقيقًا للواقع.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

وربما تكمن أهم الإشكاليات في أن هذا التوظيف السياسي للاضطهاد يخلق مفارقة مزدوجة في حياة القبطي المهاجر: من جهة، يُحتفى به كضحية تستحق الإنقاذ، ومن جهة أخرى، يُنكر عليه حق الانخراط الكامل في المجتمع الجديد، إذ يبقى محاصرًا بصورة “المسيحي الذي هرب من الإسلام”، وهي صورة تحرمه من التعبير عن تعقيد هويته. لذا تقول لوكاسيك بوضوح:

الاهتمام الأمريكي بالاضطهاد القبطي خلق نوعًا من الانتماء الرمزي، لكنه لم يُترجم إلى تضامن حقيقي، بل أدى إلى عزلة مزدوجة، حيث يشعر المهاجر بأنه غريب عن وطنه الأصلي، وغير مندمج في وطنه الجديد.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

من الشهادة إلى اللجوء:

عندما تتحوّل المعاناة إلى وثيقة قانونية

تُخصّص كانديس لوكاسيك فصلًا محوريًا في كتابها لدراسة التحول من المعاناة الروحية للشهادة القبطية إلى الخطاب القانوني في سياق اللجوء والهجرة. توضح الكاتبة كيف يتم إعادة صياغة قصة الألم القبطي -سواء كانت حقيقية، أو جزئية، أو مضخّمة- ضمن أطر إجرائية تخضع لمنطق الدولة الحديثة، حيث لا تُمنح الحماية بناءً على الإيمان أو الصدق العاطفي، بل على القدرة على صياغة الألم بصيغة قانونية تقنع موظف الهجرة.

المهاجرون الأقباط لا يروون قصصهم كما عاشوها، بل كما يُنتظر منهم أن يسردوها ضمن نموذج البيروقراطية الأمريكية للهجرة.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

في هذا السياق، تُصبح الشهادة القبطية، التي كانت تُقدّم في إطار لاهوتي كعلامة على الإيمان والثبات، موضوعًا بيروقراطيًا تقنيًا، يعتمد على توثيق الحوادث وتواريخ الاعتداءات وشهادات الطلاق أو الاعتقال، بعيدًا عن بعدها الروحي أو الرمزي. وهنا تظهر مفارقة حادة: فالمهاجر القبطي مطالب بإثبات أنه “مضطهد بما يكفي”، لا مجرد “مؤمن بما يكفي”.

المأساة الفردية لا تُحتسب إلا إذا أمكن قياسها بلغة القوانين الدولية، وهو ما يدفع كثيرًا من المتقدمين للجوء إلى تعديل أو اختصار أو حتى مبالغة في روايتهم.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

تلفت الكاتبة النظر إلى أن الكثير من طلبات اللجوء المقدمة من أقباط صعيد مصر لم تكن مبنية على اضطهاد ممنهج بالمعنى القانوني، بل على استثمار خطاب “الأقلية المضطهدة” المنتشر في الإعلام الأمريكي. فمع الوقت، أصبح هذا الخطاب أشبه بـ”وصفة” يتم تداولها داخل الجاليات القبطية، ويجري تعليمها للراغبين في الهجرة، بهدف تحسين فرص القبول.

تمت قولبة خطاب اللجوء بحيث يتعلم المهاجر كيف يعرض نفسه كضحية، لا كفاعل، وكيف يختصر كل تعقيدات حياته في عبارة واحدة: ‘أنا قبطي، مضطهد في مصر'.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

لكن هذا النمط من التقديم يفتح الباب لتساؤلات أخلاقية صعبة. إذ تطرح لوكاسك سؤالًا محوريًا: هل يسافر الأقباط فعلًا بسبب تهديد وجودي لطائفتهم؟ أم أن الكثيرين يستثمرون في خطاب المعاناة لتحقيق الهجرة الاقتصادية؟ وتكتب في نقدها لهذا التعقيد:

السردية القانونية المتمحورة حول الاضطهاد أصبحت جسرًا لعبور الحدود، لكنها أفرغت الشهادة من معناها اللاهوتي، وحوّلتها إلى وسيلة لعبور البيروقراطية، لا إلى موقف من الموت.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

الكنيسة والهوية:

بين القداسة والسياسة

ترصد كانديز لوكاسيك في دراستها الة كيف خضعت الكنيسة القبطية في المهجر، خاصة في الولايات المتحدة، لتحولات جوهرية في خطابها وممارستها، تحت تأثير البيئة السياسية والدينية الأمريكية. ففي سعيها إلى الحفاظ على وجودها وهويتها، تبنّت الكنيسة خطابًا أكثر قربًا من القيم المحافظة الأمريكية، خصوصًا فيما يتعلق بالأسرة، والجنس، والطهارة، والانتماء القومي.

في الشتات، لم تعد الكنيسة مؤسسة دينية فقط، بل تحوّلت إلى قوة سياسية ثقافية تعيد تعريف الإيمان وفقًا لقيم محافظة متأثرة بالسياق الأمريكي.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

غير أن هذا التكيف لم يكن سلسًا ولا موحدًا، بل أدّى إلى توتّر واضح بين الكنيسة والأجيال الجديدة من الأقباط المولودين في أمريكا. فهؤلاء الشبان الذين نشؤوا في بيئة متعددة الثقافات، وينتمون إلى جيل رقمي ناقد، يجدون صعوبة في التماهي مع خطاب كنسي ما زال يُكرّس سردية الشهادة والمعاناة القبطية كوسيلة لحماية الهوية.

الشباب القبطي في أمريكا يواجه ما تسميه الكنيسة ‘ضعفًا روحيًا'، لكنه في الحقيقة تمزق هوياتي بين سردية الماضي وخيارات الحاضر.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

من جهة أخرى، يلفت الكتاب النظر إلى فجوة طبقية حادة داخل الجالية القبطية الأمريكية، حيث تهيمن نخب مهاجرة ميسورة (غالبًا من خلفيات حضرية في مصر) على المشهد الكنسي والتمثيل الإعلامي والسياسي، بينما تُهمّش الطبقات العاملة القادمة من قرى الصعيد، التي تعيش في أحياء فقيرة في مدن مثل ناشفيل أو جيرسي سيتي.

الطبقات العاملة من الأقباط يعيشون على هامش الكنيسة والسياسة في آنٍ واحد، فهم لا يمتلكون اللغة أو الشبكات أو الظهور الذي يمنحهم سلطة التعبير.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

وتشير الكاتبة إلى أن هذا التفاوت لا ينعكس فقط على المستوى المادي، بل يُعيد إنتاج سرديات طبقية داخل الكنيسة نفسها، حيث تحظى بعض العائلات بمكانة خاصة، بينما تظل فئات واسعة من المهاجرين عالقة في دوائر الخدمة والرعاية، دون أن تُمنح حق التأثير أو التمثيل.

الكنيسة القبطية في المهجر تعيد تراتبيات مصر الطبقية، وتُضفي عليها طابعًا دينيًا تحت شعار القداسة والخدمة.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

قراءة نقدية:

جدلية الإمبراطورية والمقاومة

يمثل كتاب “شهداء ومهاجرون” مساهمة نوعية في دراسات ما بعد الاستعمار والدين والهجرة، إذ تنجح كانديز لوكاسيك في تفكيك البُنى اللاهوتية والسياسية التي تُعيد إنتاج الأقباط بوصفهم “شركاء في الإيمان” و”ضحايا” في سرديات المحافظين الغربيين. إنها تقرأ دم الأقباط من منظور ليس أخلاقيًا فقط، بل اقتصادي-رمزي، يكشف كيف تُستثمر الشهادة الدينية في مشاريع سياسية تتجاوز حدود الطائفة والوطن، وتعيد رسم مشهد “الاضطهاد” ليصبح أداة في الخطاب الإمبراطوري الأمريكي.

مع ذلك، لا يخلو الكتاب من مواضع إشكال تتعلق بمنهجه وتركيزه. فقد اتهمه بعض النقاد بأنه يقلل من حدة الواقع اليومي للتمييز الذي يعيشه الأقباط في مصر، من تهجير قسري في بعض القرى، إلى عدم تكافؤ الفرص، والعنف الطائفي المتكرر. فبينما يُسلط الكتاب الضوء على التوظيف الغربي لمعاناة الأقباط، فإنه لا يتوقف بما يكفي عند البُعد المحلي الداخلي للاضطهاد، بوصفه نتاجًا لبنية ثقافية وسياسية داخلية وليست مجرد مادة صالحة للاستهلاك الخارجي. كما يلاحظ في الكتاب غياب أصوات بعض من ضحايا الاعتداءات أنفسهم، وغياب تتبّع للواقع القانوني والاجتماعي للمؤسسة القبطية داخل مصر.

السؤال الأكثر إلحاحًا هنا هو: هل يسمح إطار التحليل الإمبريالي الذي تتبناه الكاتبة بإبراز صوت الأقباط كفاعلين مستقلين؟ أم أن الكتاب يعيد إنتاج مركزية غربية مقلوبة: هذه المرة باسم نقد الإمبراطورية؟ ففي كثير من فصول الكتاب، يظهر الأقباط لا بوصفهم صانعي خطاب، بل مادة لتحليل خطاب الآخرين عنهم. تقول الكاتبة مثلًا:

قصة الأقباط في أمريكا ليست فقط عنهم، بل عن كيفية رؤيتهم من قبل الآخرين.

(كانديز لوكاسيك، شهداء ومهاجرون)

وهو قول يحمل دلالة مزدوجة: فهو يكشف آليات التوظيف، لكنه يُبقي الأقباط، في بعض المواضع، في موقع “المفعول به” لا “الفاعل فيه”.

أخيرًا، يمكن القول إن لوكاسيك، برغم تركيزها الأساسي على التحليل النقدي للخطاب الديني والسياسي الأمريكي، تفتح الباب أمام مساءلة أخلاقية أوسع حول طبيعة التضامن، ومعنى الشهادة، وحق المجتمعات المهاجرة في أن تُروى قصصها لا فقط من خلال من ينظر إليها، بل من داخلها. وربما كانت الخاتمة المفتوحة للكتاب هي بمثابة دعوة إلى المزيد من العمل الإثنوغرافي الذي ينطلق من صوت الأقباط أنفسهم، لا فقط من تمثيلاتهم في الغرب.

خاتمة:

دماء لا تُنزف في الفراغ

يمثل هذا الكتاب مساهمة نوعية لفهم موقع الأقباط بين الشرق والغرب، بين الشهادة واللجوء، بين القداسة والسياسة. وهو دعوة لإعادة التفكير في مفاهيم مثل “الاضطهاد” و”القرابة الدينية” و”الأقليات”، خارج قوالب الخطاب السياسي والإعلامي.

يبقى السؤال الأهم: هل يحتاج الأقباط -أو غيرهم- إلى من يحتفي بدمائهم ليثبت أنهم أهل لهذا العالم؟ أم أن الزمن قد حان لبناء قرابة قائمة على الحياة لا الموت، على التعدد لا ، وعلى الكرامة لا الاستثمار الرمزي؟

هذا المقال: عندما يكون الدم ثمنًا للإيمان والانتماء للوطن، نقلًا عن: بوابة الحركات الإسلامية [نافذة لدراسة  والأقليات]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

حسام الحداد
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎