في وسطِ الحُزن، وكلماتِ الرِّثاء الكتيرة اللي اتقالت بعد انتحار أبونا ماتيو، نفرٌ قليلٌ جدًّا جدًّا هو اللي وقف وسأل السؤال الأخطر والأهم:

انتحر ليه؟! ماحدِّش عارف القصة!
لكنِّي أكملت مُتسائلًا:
ليه حد “مِن المُفترض” قام فيه المسيح، وغلب الموت جواه، يوصل في يوم ويختار يرجع للقبر بإيده؟!

مش بتكلم عن نَظَريّات مُجرَّدة، ولا مشاعر جَيَّاشة كبيرها ترثي بشوية كلمات، بتكلم عن ناس المسيح اتجسّد في حياتهم، اتولد فيهم، فاتولدوا من جديد.
ناس مات فيهم، وقام بيهم، وبدّل كيانهم بالكامل بنعمته.
ناس سكن فيهم الرُّوح القُدُس، وبيتملّوا منه وينموا كل يوم بثباتهم في القيامة، مش كشعار، لكن كقوّة بتُقيمهم من الموت يوم بعد يوم.

اللي قام فيه المسيح بجد، عَبَر الموت فعلًا: موت الخطيَّة، والانفصال، العداوة، الغُربة، الضياع، وعدم السَّلام مع الآب.
فلو ده حصل… إزاي ينتحر، وبقرارٍ واعٍ، يرجع بنفسه للقبر؟!

هل التفسير النَّفسي كفاية؟ ولا في حاجة أعمق؟

الناس اتجمعت حوالين التفسير النَّفسي:
ضَغط نفسي، اكتئاب، صراعات داخلية، احتياج للدّعم…
وآه، فعلًا مفيش إنكار إن فيه أمراض نفسيّة حقيقيّة بتحتاج احتواء ومرافقة محبّة.

لكن السؤال:
هل ده جذر المشكلة؟ ولا فيه حاجة أعمق؟ توصل لحدّ الانتحار؟!

هل يدُ الرّب، اللي خَلَّصت ناس من الموت الأبدي بالفعل (بمعناه وجوهره الأقوى والأشرس)، تعجز تُخلّص من وساوس، وشُكوك، وأوهام وصراعات نفسية؟ أو حتى أمراض جسدية؟
أو حتى لو بَقِيَ من تلك الصراعات شيء أو ظَهَر، تقوى على فرحة نعمة سُكنى وحضور وشركة الثالوث في الكيان كله؟!

ولا المشكلة إننا بقينا نسمع صوت النفس أكتر من صوت الرّب الرُّوح؟
نتشخّص نفسيًّا ونتكلم عن الألم… لكن ما نموتش عن الذات.
ونفتكر إننا عايزين شفاء… وإحنا أصلًا محتاجين موت وقيامة!

المحبّة الجَسُورَة

المحبّة مش بترثي بالكلام الحنين والخُطب وبس…
المحبّة الحقيقيّة زي محبّة المسيح: بتدخل، بتواجه، وتكشف، وبتنادي بمحبّة وبساطة ووضوح.

المسيح ما وقفش بعيد يرثي، لكنه اقترب…
اقترب ولمس البُرص، اللي ممنوع حتّى يقربوا منهم.
قعد مع الزُّناة والخطاة، واتهاجم.
أكل مع ناس ما كانوش في نظر كثيرين مُستحقّين يقفوا معاه، ولم يسلم من الانتقادات.
ماعملش خطب تعاطفيّة، لكن واجه الحقيقة، وكشف الدّاء، وشفاهم.
المسيح ما “تفهَّمش” الناس بس، لكنه دخل لموتهم، وغلبه عنهم، وجواهم.

والمحبّة دي، لو ظَهَرت النهارده، بيتقال لها:
“روح اقرأ في علم النفس، هتفهم ليه حصل كده!”
وكأنّ الإجابة فعلًا في علم النفس!!

تشخيص النفس.. خلاص النفس وشفاها

كلّ علم النفس والمشورة، بكلّ عُمقهم وفروعهم، يقدروا يفهموا النفس، يحلّلوها، يُشخّصوها… لكن ما يقدروش يُغيّروها.

ليه؟

الذات -بكلّ التواءاتها، وخداعها، وأوهامها- مش بتتصلّح… الذّات بتندفن.

وده الفرق الجوهري بين بشارة الإنجيل، وكلّ مدارس “الإصلاح النفسي”: علم النفس بيشتغل على ترميم الذات.
المسيح بييجي علشان يُميت الذات القديمة، ويخلق من جُوّاها خليقة جديدة بالقيامة.

والله -مش المُعالِج النفسي- هو اللي يقدر يُميّز أفكار القلب ونيّاته، ويكشف العُمق المُظلِم، ويُغيّره بكلمته الحيّة وبنعمته:

لأَنَّ كَلِمَةَ ٱللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ، وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ، وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. [1]

مش بلوم أو أحكم أو أدين… بس بصَدِّق

أنا مش باكتب علشان أُحكُم على أبونا ماتيو…
ولا بأقلّل من أي حدّ تعبان بجدّ.
لكني بصدق…
بصدّق إن المسيح يسوع ما جاش بس يهدي، ولا علشان يتعاطف، لكن علشان يغلب… ويُقيم… ويُخلّص.

اللي انتصر، وقام، وغلب في بولس، خلاه يصرّح بثقة:

مَن سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ؟ أَمْ ضِيقٌ؟ أَمِ ٱضْطِهَادٌ؟ أَمْ جُوعٌ؟ أَمْ عُرْيٌ؟ أَمْ خَطَرٌ؟ أَمْ سَيْفٌ؟ فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا، يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لَا مَوْتَ وَلَا حَيَاةَ، وَلَا مَلَائِكَةَ وَلَا رُؤَسَاءَ، وَلَا قُوَّاتِ، وَلَا أُمُورَ حَاضِرَةً، وَلَا مُسْتَقْبَلَةً، وَلَا عُلْوَ وَلَا عُمْقَ، وَلَا خَلِيقَةً أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تُفَصِّلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. [2]

حتى لما أعلن تعبه النفسي، قال:

مُكْتَئِبِينَ وَلَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مَطْرُوحِينَ وَلَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. [3]

وحتى وهو شايل في جسده شوكة كانت بتتعبه…
فضل يسمع صوت الرّب:

تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لِأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَل. [4]

ده يوضّح إن المشكلة في أساسها أعمق من الصراعات النفسية.
المشكلة اللي لو اتحلّت من جذرها، كل المستويات اللي بعدها -سواء نفسية أو جسدية – تضمحل تدريجيًّا، مع النمو والثبات في نعمة الله، وفي شركة الجسد الحيّ الواحد.

هُوَذَا يَدُ ٱلرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقُلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ [5]

“لِعَازَر، هَلُمَّ خَارِجًا!”

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. رسالة بولس إلى العبرانيين ٤: ١٢ [🡁]
  2. رسالة بولس إلى رومية ٨: ٣٥–٣٩ [🡁]
  3. رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس ٤: ٨–٩ [🡁]
  4. رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس ١٢: ٩ [🡁]
  5. سفر إشعياء ٥٩: ١ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

أشرف سمير
Environmental Planning & Management Systems Specialist في Vodafone Egypt   [ + مقالات ]