ظني إننا ككنيسة مشرقية نعيش ونمر بما يمكن أن نسميه لحظة صدمة ما قبل الاستنارة؛ التي فيها يتواجه داخلنا ما وقر في الذهن من صور طوباوية تقترب من الأسطورية، عن المجال الكنسي، خاصة فيما يتعلق بالرتب الكهنوتية بمجملها، مع الواقع المعيش المحكوم بنوازع واحتياجات وطبيعية كونهم بشرًا.

تلك الصور انتزعتهم، في الذهن المتلقي، من إنسانيتهم، الطبيعية، واعتقلتهم في صور منزهة معقمة وكادت أن تؤلههم، وتضع المستنيرين منهم والأمناء في سعيهم لخدمة رسالة الخلاص، في أزمة، وصراع مكتوم بين أمانتهم واختلالات المنظومة.

ووجد هذا الانتزاع قبولًا لدى العقل الجمعي، ليس عن غفلة في أغلب الأحوال، وإنما لأسباب مختلفة.

ربما قياسًا على تصورات تعليم ما -تغلغل- عن الصورة التي رسمها الكتاب لخادم الرب وقد تصاعد في الذهن الربط بينهم ومن دعاهم لخدمته، أو سعوا هم لخدمته، بدعوة أو بتطلعات ذاتية.

وربما بدافع سيكولوجية الأقلية، والفكر العائلي الأبوي، وكلاهما يرفض قَبُول أي اقتراب من رموزه أو النظر إليهم من منظور بشري، يردهم إلى طبيعتهم الإنسانية، ولا يقبل أن يتبدى منهم أوجه الضعف الطبيعية، ويستصعب فهم أو القبول بخضوعهم للنمو النفسي والروحي، وطبيعية التجربة والخطأ.

وثمة كتابين كنسيين أسهما في تكريس الأزمة، ويحتاجان لمراجعة وتنقيح، ال و، وثمة مساع نشهدها في هذا التوجه. على المستويين الكنسي والديري.

وعمَّق المفاهيم المغلوطة ما يتواتر على صفحات العالم الافتراضي من حكاوي المعجزات والطوباوية التي تلاحقنا عن الكهنة والرهبان، وقد نجحت الرهبنة -بامتداد عقود قريبة- في فرض أنساق حياتها على الحياة خارج أسوار الأديرة، في حين تفتقدها داخلها، حتى يمكننا القول بإن عديد من الأديرة صارت تضم رهبانًا لكنها تفتقر للرهبنة. وخارج أسوارها تتمزق الأجيال الغضة بين أطروحات طوباوية محلقة فى السماء وأنين معاش تحت ضغط الطبيعة البشرية واحتياجاتها وصراعاتها اليومية.

لحظة الصدمة هذه التي يمر بها كثيرون، يمكن أن تكون مدخلًا لاستنارة تعيد وضع الأمور في نصابها، فيتحول تعلقنا بخادم الرب إلى ارتباط بالرب نفسه، ومعه نكتشف عمق العبادة وعمق الكنيسة التي تقدم لنا عبر منظومة عقائدها، وطقوسها المبدعة، سُبل معرفة الله الثالوث ولاهوت التجسد وتربطنا بوسائط الخلاص التي تقودنا للارتباط بالمسيح الذي بتجسده كشف لنا سر الملكوت، ولم يتوقف عن تعليمنا أسرار الأبدية، وقدم نفسه نموذجًا لماهية الخادم في اتضاعه حتى إلى غسل أرجل تلاميذه، لنقتد به، وترجم بموته وقيامته عمق محبة الله لنا. وفيه صرنا أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه. بل وورثه به ومعه للملكوت. ما أسعدنا.

ومعها نكتشف أن الحاجة إلى واحد، ينير الذهن وينعش الروح ويقودنا إلى النور.

دعونا نصلي من أجل سلامنا وسلام الكنيسة واستنارة خدامها، في مناخات مناوئة عنيفة، عسى أن نعبر من الصدمة إلى الاستنارة.

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار ال المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎