قلعته المرتفعة ألفين وخمسمائة متر عن سطح البحر في شمال غرب إيران، هي مقصد لآلاف الناس في شهر يوليو من كل عام، لا سيما الأذربيجانيين الذين يعتبرونه بطلهم القومي وشهيدهم. لكنه أيضًا بطل قومي بالنسبة إلى الفرس من الإيرانيين الذين يؤكّدون على انحدار نسبه منهم. إنه بابك الخرمي، أو بالفارسية بابك خرمدين، ألدّ أعداء الخلافة العباسية. استنزفها طوال عهد المأمون، ولم يتمكن منه المعتصم إلا بالحيلة، وبعد أن أرهق تمويل الحملات ضده خزانة الدولة.

قلعة بابكقاد بابك حركة دينية واسعة النطاق في أذربيجان وعموم البلاد الإيرانية، استهدفت مسارًا مغايرًا لما أُرسي مع الفتح العربي الإسلامي. قالت حركته بثنائية الظلمة والنور، وتناسخ الأرواح، وعظّمت أبو مسلم الخراساني، واعتبرته إمامًا مهديًا، وبابك من صلبه. هاجمتها المصادر العربية بتهمة ارتكابها الفظائع وإحلالها مشاعية المال والنساء، في حين احتضنتها مرويات الإيرانيين والأذربيجانيين، مع بعض الحرج من النظام الإيراني بعد الثورة، طالما أن بابك لم يقد ثورة باسم الإسلام ضد آخر، بل كانت ثورته من بين الأكثر وضوحًا وشراسة ومدى؛ ضد الإسلام.

الثأر لأبي مسلم الخراساني

بخلاف الإمبراطورية البيزنطية التي صمدت بوجه الفتوحات العربية، واكتفت هذه الفتوحات بانتزاع ولاياتها الجنوبية دون الإطاحة بها، انهارت الإمبراطورية الساسانية أمام موجات القبائل العربية. وكما حظيت الديانتان الكتابيتان، اليهودية والمسيحية، بوضع أهل الذمة في دولة الخلافة الإسلامية، كذلك حظيت الديانة الزرادشتية في إيران، وعمل رجال دينها على التكيف مع الوضع الجديد، ودعوة أتباعهم لطاعة الحكام العرب أو اتقاء شرهم، ودفع الجزية مقابل حقن دمائهم وحفظ عرضهم ومالهم.

استمرّت المسيحية ديانة الغالبية في بلاد الشام ومصر لقرون عديدة بعد الإسلام، وهي قرون العصر الكلاسيكي للحضارة العربية، أي فترة الخلافتين الأموية والعباسية. وبالمثل، استمرّت الزرادشتية ديانة الغالبية في إيران حتى القرن العاشر الميلادي. جهدت مؤسستها الدينية الرسمية على ثني أتباعها عن الالتحاق بحركات الخروج والتمرّد على الولاة العرب، لكن الكثيرين منهم التحقوا فعلًا بهذه الحركات، والتحقوا بشكل أساسي بالائتلاف العريض الذي قاده أحفاد عم الرسول، العبّاس، بقيادة أبي العباس، للإطاحة بملك بني أمية. ابتعد هؤلاء عن الزرادشتية الرسمية “الذمّية”، وعن الإسلام الأموي الذي يحطّ من شأن الموالي، وعلّقوا آمالهم على الثورة العباسية.

كانت صدمتهم يوم سارع العباسيون، بعد انتصارهم، للإطاحة بالزعيم العسكري الشعبي الفارسي الذي كان له الدور الأساسي في تمكينهم من الظفر ببني أمية: أبو مسلم الخراساني. إعدام أبو مسلم ألهب المشاعر ضد العباسيين في كل بلاد فارس، وخلق مناخات مختلفة من التخليط بين المعتقدات الدينية الإيرانية السابقة على الإسلام، التي تجد قاسمها المشترك في ثنائية الظلمة والنور، سواء انبثاقهما من إله واحد، أهورا مازدا، أو باعتبارهما جوهرين أزليين، وبين المعتقدات والمناخات الإسلامية. خرجت الحركة تلو الأخرى تتظلّم لأبي مسلم، وتحارب قاتليه، تعتبره مهديًا لابدّ من عودته، أو تطلق العنان لحنينها لملك الساسانيين.

لا الزرادشتية الذمية ولا الإسلام العنفي،
بل: الدين السعيد

حرصت المؤسسة الدينية الزرادشتية الرسمية على النأي بنفسها عن هذه الحركات، وكذلك الجماعات الشيعية المختلفة. مع ذلك، تمكنت هذه الحركات، التي ظلت تبكي أبو مسلم وتنشد مآثره في مرثيات الـأبومسلم نامه، من استنزاف العباسيين مطولًا، من حركة سنباذ وإسحاق الترك إلى حركة المقنع الخراساني، ومن المحمرة إلى الخرميين. وبقي أن الحركة التي قادها بابك بن بهرام الخرمي تحديدًا، التي عمّت أرجاء أذربيجان ووصلت إلى الديلم وقزوين وأطراف أصفهان، مثّلت أعنف وأعتى وأطول مواجهة دينية وسياسية وعسكرية مع الدولة العباسية.

دامت هذه المواجهة ثلاث وعشرين عامًا. بدا في معظمها أن الأمور سائرة نحو استقلال إيران عن الخلافة الإسلامية، وعودتها إلى تراثها الديني ما قبل الإسلام، وإن كان ذلك مشوبًا ببعض المؤثرات المهدوية الإسلامية.

يصعب اليوم تعريف الخرمية، وإن كان الأكثر إقناعًا نسبتها إلى خرمدين الفارسية، أي الدين السعيد أو الدين المبارك. ولا يُعرف إن كان المقصود بذلك الديانة الإيرانية السابقة على الإسلام تحديدًا، أم فكرة عن دين حقيقي متجاوز لثنائية “إسلام أو زرادشتية”. يميل أكثر الباحثين إلى إعادة الخرمية إلى الحركة الدينية المزدكية التي أطلقها مزدك بن موبذان في القرن الخامس الميلادي، التي قمعتها الزرادشتية الرسمية وحرضت عليها مطولًا، بتهمة أنها أرست مشاعية المال والنساء. وهو ما سيُكرره المؤرخون العرب، ويستخدمونه ضد الحركات الدينية الإيرانية في القرون الإسلامية الأولى، كالمحمّرة والخرميين، لا سيما أكبر حركات الخرمية، تلك التي قادها بابك.

ومع أن بابك قاد ثورته في أعالي جبال أذربيجان الإيرانية، فهو تراث مشترك بين الفرس والإيرانيين. فمن جهة، يشدد الفرس على أنه من عائلة فارسية نزحت باتجاه الشمال الغربي لإيران بعد الفتح العربي، وثمة من يعتبره حفيد فاطمة ابنة أبي مسلم الخراساني، وثمة من يذهب إلى أنه حفيد الساسانيين. أما الأذربيجانيون فيشددون على أن الحركة كلها كان طابعها الإثني الأساسي أذربيجانيًا، أرضًا وشعبًا، وأن قوتها في وجه الخلافة العباسية، لعقدين ونيف، تُفسّر بالطابع القومي الأساسي لها. والأكراد هم أيضًا عنصر إثني أساسي في الحركة التي قادها بابك، وإن تكن شعبيته بينهم أقل من شعبيته بين الأذربيجانيين والفرس. تمثل البابكية إذًا ثورة شعوب مختلفة ضد الحكم العربي، لكن يبدو أيضًا أن عددًا من العرب تطوع فيها كذلك.

في زمنها، مثّلت هذه الحركة أهم تحدٍّ ارتدادي واجه الإسلام وكان ينذر بتقويض حكم الدين الحنيف في إيران. استفاد بابك الخرمي من الانقسام داخل البيت العباسي بين الأمين والمأمون، واستطاع أن يهزم أكثر من حملة وجهها المأمون ضد الجبال التي يتحصن فيها، جبال البذ بمنطقة آران في إقليم أذربيجان.

رحل الخليفة المأمون دون أن يتمكن من حسم المعركة المتواصلة، الأمر الذي تمكن منه الخليفة المعتصم، من خلال حملة الأفشين التركي الذي تمكن من تخريب قلاع بابك بعد حرب طويلة كانت تتوقف في موسم الثلوج وتعود كل ربيع. لجأ بابك إلى إحدى الممالك الأرمنية المجاورة، التي قامت بتسليمه تحاشيًا لحملة عبّاسية ضدها. حُمل بابك على ظهر فيل إلى سامراء، وقُطعت يداه ثم صُلب، وكذلك كان مصير شقيقه ومعظم قادة حركته.

يتحدث المؤرخون العرب عن جيش بابك الذي مثّل أخطر تحدٍّ للدولة الإسلامية في إيران، فيبلغون عدده بمئة بل مئتي ألف جندي، والأرجح أن في الأمر مبالغة، في حين تتحدث المصادر المتضاربة عن أكثر من نصف مليون جندي عباسي لاقى حتفه في الحملات المتواصلة ضد قلاع بابك.

بابك وزوجته المناضلة بانو

صورة المؤرخين العرب عن ثورة بابك أكثر قتامة. اتهام له ولجماعته بمشاعية المال والنساء، وانتهاك المحارم، وقتل الناس اعتباطًا، وأسر وتعذيب الآلاف. ومع أنّ معظم العرب اليوم يجهلون من هو بابك الخرمي، فإنّ السطور القليلة عنه في كتب التاريخ عن الفترة العباسية سلبية للغاية.

صورته في إيران وأذربيجان شديدة الاختلاف؛ فهو في البلدين بطل قومي، وصورته رومانسية إلى أبعد حد، بما أنّ مآثره الملحمية تشارك فيها زوجته بانو خرمدين. بابك وبانو زوجان عاشقان حاربا معًا ضدّ الحكم. الحكم العربي؟ الإسلام؟ الحقيقة أنّ تعظيم بابك تبدّلت وظيفته في العقود الأخيرة بحسب السياق.

في الفترة السوفييتية بأذربيجان، أعدّت الدعاية صورة عن بابك بوصفه أبا الة، وأنّ صراعه ضد العباسيين لم يكن فقط من أجل حرية شعب أذربيجان، بل على قاعدة برنامج اجتماعي يلغي الملكية الخاصة بين الخرميين. وفي السبعينيات، لعب فيلم سوفييتي عن بابك دورًا أساسيًا في توجيه الوعي بهذا الشكل.

تمثال بابكبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عظمت أهمية بابك في أذربيجان. تضاعف عدد التماثيل والأعمال الفنية المقامة له، فهو رمز حركة التحرر القومي لشعب أذربيجان ضد العباسيين، بالإضافة إلى أنّ الأرمن هم الذين سلّموه في النهاية.

أما في إيران ما قبل الثورة، فقد جرى الاحتفاء ببابك كرمز قومي للحضارة الفارسية. فهو حلقة وصل بين مجد الساسانيين، وبين النبض الفارسي المتجدّد الذي عبّر عن نفسه لاحقًا من خلال شاهنامة الفردوسي. كما يعتبر بعض المؤرخين أنّ الخرمية البابكية حافظت على وجودها الروحي والمعنوي في الجبال، وأنّها ألهمت لاحقًا القبائل التركمانية التي اعتمرت اللون الأحمر نفسه الذي ميّز الخرميين، فدعيت بأصحاب الرؤوس الحمراء، “القزلباش”.

ويظهر أنّ الشاه إسماعيل الصفوي، أول شاه إيراني يعتنق التشيع بداية القرن السادس عشر، لم يعتنقه من زاوية التشيع الإثني عشري الأرثوذكسي، المؤطر بالمذهب الجعفري، بل من زاوية هذا التشيع المغالي، الزاخر بالموروثات ما قبل الإسلامية، أو المتمرّدة على الحكم الإسلامي، مثل الخرمية البابكية.

في المقابل، سعت الثورة الإسلامية لمحاصرة هذا الرمز في مرحلة أولى. فإذا كان لابدّ من رمز قومي مسوّغ له دينيًا، فهناك أبو مسلم الخراساني، ولا حاجة لبابك. وهذا ما جعل الأذربيجانيين من الإيرانيين يتمسكون أكثر ببابك، إذ كان لابد من استيعاب جزئي لمظاهر عبادة البطل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

وسام سعادة
معهد العلوم السياسية، جامعة القديس يوسف، بيروت   [ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎