إن الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحقِّ فاجر، وتارك حقّه مطيع، والمشتكي المتظلِّم مفسد، والنّبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، ويُصبح -كذلك- النُّصْح فضولًا، والغيرة عداوة، والشّهامة عتوًّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضًا، كما يعتبر أنَّ النِّفاق سياسة، والتحيُّل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.
(كتاب “طبائع الاستبداد” للمفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي)
لأنه تم غلق المجال العام، وتأميم السياسة، والسيطرة على الإعلام، وبما أنه غير مسموح لأحد أن يتفوه بكلمة واحدة مخالفة، دخلنا فيما يسميه “آلان دونو Alain Deneault”، بـ”نظام التفاهة”، فأصبحت “السوشيال ميديا Social Media”، تلعب دورًا بديلًا في صناعة الرأي العام، ولملء الفراغ طفا على السطح ما يعرف بالـ”تريند Trend “، ومن العجيب واللافت للنظر أن هذا التريند في مصر له Gramar موحد، فمن “بائع الفريسكا”، و”سيدة المطار”، و”سيدة القطار”، و”سيدة المطر”، و”طبيب الميكروباص”، إلى “طفل الليمون”، وصولا إلى “فتاة سقارة”!
ثم أغرقونا في “تريندات دينية” مصنوعة -من وجهة نظري- تغذي الصراعات بين البشر، فمن “صراعات تغطية النساء وأنواع المايوهات الشرعية”، و”الشماتة في موت العلمانيين”، و”تكفير الأقباط”، وصولا إلى “اقتلوا زكريا بطرس شاتم الرسول”، و “فداك أبي وأمي يارسول الله”، و “كله إلا رسول الله”!
لكن هذه المرة، طفا على السطح “تريند” إنساني بسيط من مذيع الشارع أحمد رأفت في برنامجه المتميز “جبر الخواطر” مع سيدة مسنة هي السيدة “نعيمة مسداري” خطفت القلوب بتلقائيتها وروحها المصرية، امرأة مصرية من مواليد سنة ١٩٣٥ (عام ثورة المصريين المنسية)! وتعرفنا على ظروفها وإن لديها ابن لا يتكلم ولا يسمع، وهي ترى أن الله أطال عمرها لتعوله! -فزاد تعاطفنا- ورفضت أن تحصل على المبلغ المقدم لها وقالت: “أنا أدي.. مش أخد يا حبيبي”، ثم خرج ابن أخيها “مايكل”وأخذ الفلوس!
فهو صحيح فيديو جميل وإنساني ومبهج عن سيدة مصرية أصيلة ذكرتنا بمعدن شعبنا الطيب، وروح مصر النبيلة، وكفاح أهالينا العظام وهم في حالة سلام ورضا ومحبة! ولكن، ما عكر صفو المشهد الجميل، أنه تم اختزال المشهد في إنها “سيدة قبطية” في حين إذا تمت مشاهدة بقية حلَقات البرنامَج سنجد نماذج مصرية عظيمة (دون التركيز على البعد الديني)!
ثم ما زاد الطينة بلة، دخول سمسار ديني شهير، وتاجر أديان “ملو هدومه” فتذكرت محمود عبد العزيز في فيلم الساحر عندما قال فأوجز “كنا قريبين من البهجة، لغاية لما الدقون أتحركت”!
حيث أرسل صاحب النيافة والسلطان الجنرال المغوار، فتاة مفترض أنها “مذيعة” تعمل في قناته، ومن المفترض إنها قناة مملوكة للكنيسة، ولكنها في الواقع ملكية خاصة لنيافته وتياره!
https://www.youtube.com/watch?v=sxAMWLKX0Fc
وتم توجيه رسائل غاية في السوء والسلبية، وتم التركيز على ما أسموه (الرضا)، و”لوم الناس الذين يشتكون من الأسعار”! في رسائل سياسية فجة، ففي الحقيقة لم أر في هذا المقطع إلا توظيف سياسي حقير لسيدة مسنة تعيش بفطرتها! مما يفتح باب التساؤل عن دور هؤلاء المخبرين المتسربلين بالدين، لابسي مسوح التقوى المزيفة!
فهم في الحقيقة -ويا للأسف- سدنة الظالم، وخادمي السلطان، ومبرري الظلم والطغيان، ودورهم بارز في الدفاع عن الظالم والغلوشة على الفساد، و تهيئة وتخدير الجماهير لقبول العذاب الأرضي في مقابل النعيم السماوي المنتظر!
ثم جاء بها هذا السمسار الديني إلى مكتبه، في استدعاء رسمي لسيدة مسنة (بطلانة) على حد قول أهالينا المصريون! واتخذ لها صورة في وضعية “تكريم” وهي تقبل يده “الطاهرة”! بدلا من أن يتعلم منها، ولكن على حد قول صديق: ما يغيظني إننا سنموت جميعا، الخير والشرير، لكن هذا السمسار سيصبح قديسا يتشفع به، وقتئذ ستكون السيدة الفاضلة “نعيمة” في طي النسيان!
فهذه هي قواعد أرض النفاق!
ولكننا نقولها بملء أفواهنا : العار والشنار لكل مخبر سمسار!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
مجموعة قصصية بعنوان: "تحوّل"، ٢٠١٩
كتاب: "اﻷقباط والحداثة"، ٢٠٢٢