في عام 2003، وقبل أسابيع من الحرب الأمريكية على العراق، كتب عالم الاجتماع والمؤرخ الأمريكي إيمانويل واليرشتاين، وهو أحد أبرز مؤرخي النظام الرأسمالي العالمي، يقول إن المحافظين الجدد الذين يحكمون الولايات المتحدة في عهد الرئيس الجمهوري، چورچ بوش الابن، هم من يدركون أن القوة الأمريكية تتراجع في ظل التحولات التي شهدها العالم منذ سبعينات القرن العشرين، وهم أيضًا من سيكتبون نهاية حلم الإمبراطورية الأمريكية بسبب سياساتهم.
يرى واليرشتاين أن الولايات المتحدة لا يمكنها السيطرة على التحولات الجذرية في النظام العالمي، لكن يمكنها فقط التأثير فيها، وأنها تتأثر بهذه التحولات على النحو الذي بينته هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي أظهرت أن القوة العسكرية الأمريكية لا تردع خصوم الولايات المتحدة وأعدائها بما يكفي. وأكدت الحروب التي شنتها إدارة بوش والإدارات الأمريكية اللاحقة تحت شعار “الحرب على الإرهاب” أو مواجهة “محور الشر”، حسب مبدأ بوش، لم تعد للولايات المتحدة الهيمنة التي كانت تتمتع بها في العقود السابقة بقوة تأثير نموذج “الحلم الأمريكي”، الذي يعني من وجهة نظر واليرشتاين الحلم بمجتمع يحصل فيه كل فرد على التشجيع لبذل أقصى جهده وتحقيق أقصى ما يمكنه لينال “حياة هنيئة”، في المقابل، الذي قدم نموذجًا جعل الإنجازات الفردية والمنافسة تعمل من أجل الصالح العام الأكبر، المتمثل في “مجتمع الحرية والمساواة والتضامن المتبادل”.
لقد أشار واليرشتاين في كتابه “نهاية العالم كما نعرفه” إلى أن النظام العالمي الحديث “دخل أزمة النهاية”، و”أننا نعرف عن يقين أن فترة الانتقال ستكون فترة مشكلات عصبية”. وبغض النظر عن طول الفترة التي قد يستمر فيها النظام الحالي أو بالأحرى “اللانظام” الحالي، وهي فترة اضطراب كبير بلا شك، نظرًا لصعوبة التنبؤ، وعدم القدرة على تحديد ما إذا كان النظام الذي سينشأ نتيجة لتفكك النظام الحالي أفضل أم أسوأ، إلا أن من الواضح أن القوى التي تعمل على رسم ملامح المستقبل بما يقتضيه ذلك من التزام وجدية هي أحزاب اليمين العقائدية بصورها المختلفة، الدينية والفاشية والنازية والشعبوية. وما الحرب الدائرة في منطقتنا منذ خريف عام 2023، التي تتسع رقعتها اليوم على خلفية المواجهة العسكرية مع إيران، ليست سوى جزءًا من خطة العمل التي وضعتها هذه القوى التي تسعى لرسم ملامح “النظام الجديد” الذي تتطلع إليه.
الحديث هنا ليس عن “مؤامرة” تدبرها هذه القوى لدفع التطورات نحو المسار الذي تبتغيه، لعدة أسباب، منها أننا لسنا في مواجهة خطة عمل واحدة، أو بصدد صيغة وحيدة للأحزاب العقائدية اليمينية، وإنما هناك العديد من الخطط لتلك الأحزاب المتصارعة على السيطرة على المستقبل، وأن الفارق بين هذه الأحزاب إنما يتمثل في قدرتها على التخلي جزئيًا عن رؤيتها الأيديولوجية الجامدة والتفاعل مع الواقع ومتغيراته من أجل استغلالها بشكل أفضل للمضي قدمًا في تنفيذ برنامجها. فالصراع بين إيران وإسرائيل، في جانب منه، وبغض النظر عن الموقف من هذا الطرف أو ذاك، هو في جوهره صراع على السيطرة على الشرق الأوسط وإعادة ترتيبه وفقا لرؤية كل طرف ومشروعه وبما يخدمه مصالحه المباشرة التي قد تتعارض أو تتصادم مع مصالح قوى إقليمية ودولية أخرى. ويؤمن الطرفان بأن القوة العسكرية هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الهدف المرجو. ويتطلع كل طرف إلى حسم الحرب المتصاعدة ببنهما بما يعيد صياغة موازين القوى الإقليمية والدولية لتعزيز وضعه. إلا أن التصعيد الذي كاد أن يصل إلى حد حرب شاملة، من الواضح أنها ستقود العالم إلى مزيد من الكوارث الإنسانية والبيئية، في ظل تصاعد التسلح النووي والسعي إلى التدمير المتبادل للبنى التحتية.
من ليس معنا فهو ضدنا
منذ أن رفع الرئيس الأمريكي السابق چورچ بوش شعار “من ليس معنا فهو ضدنا” في سياق الحرب التي أعلنها ردًا على هجمات 11 سبتمبر 2001 بزعم محاربة الإرهاب، والعالم دخل في موجة من الحروب المدمرة التي أخلت بموازين للقوى على نحو لا يحقق الاستقرار وإنما ينبئ بمزيد من الفوضى على جميع المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. وتزداد احتمالات الفوضى كلما اعتقد أي من الأطراف المتصارعة أن بوسعه السيطرة على عالم يزداد تعقيدًا، وفي ظل هذا التعقيد، لا يمكن معرفة أي من الحوادث أو العوامل التي قد تكون حاسمة، فيما يعرف بظاهرة “أثر جناح الفراشة”.
لقد تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، منذ حرب غزة 2023، عن “شرق أوسط جديد” خال من التهديدات المباشرة على إسرائيل بعد ما يراه هزيمة للخصوم على جبهات القتال في غزة ولبنان وسوريا والآن في إيران، التي توصف بأنها “رأس الأفعى” في المحور المعادي لإسرائيل، الذي يطلق عليه “محور المقاومة”، المؤلف من فصائل مسلحة داخل لبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، تلقى دعمًا من قبل إيران. ويعلن نتنياهو أيضا أن من لا يقف مع إسرائيل في هذه الحرب التي لطالما وصفها بأنها دفاع عن الغرب وحضارته في مواجهة “الإرهاب وقوى الشر” فهو ضدها، واستغل الموقف الراهن في التشهير بأي زعيم أو سياسي أوروبي أو أمريكي ينتقد حكومته وسياساتها، والتهمة الجاهزة، هي “العداء للسامية”. لكن ما هو شكل الشرق الأوسط الجديد الذي يبشر به نتنياهو؟ وهل سيكون نظامًا إقليميًا مستقرًا أم أن الصراع والاضطراب سيكون سمته الغالبة؟
إن المشكلة الأساسية فيما يخص الذهنية العقائدية الجامدة تتمثل في سعيها لإعادة صياغة الواقع وفقًا لرؤيتها، وعدم استعدادها لتعديل تصوراتها أو خططها بما يتوافق مع هذا الواقع وحقائقه، إما لعجزها عن التعامل مع التناقضات القائمة أو التي تطرحها التطورات الحادثة، أو لرفضها تقديم أي تنازل في مقابل تحسين الوضع. الصيغة التي تطرحها إسرائيل والولايات المتحدة للمستقبل في المنطقة هي صيغة “الاتفاقيات الإبراهيمية” التي وقعتها إسرائيل مع الإمارات والبحرين في الأسابيع الأخيرة في ولاية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الأولى، التي تقوم على فكرة التوصل إلى صفقات اقتصادية تربط اقتصادات المنطقة وما وراءها بالاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال ممرات تجارية واستثمارية، على غرار مشروع الممر الاقتصادي الهندي للالتفاف على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ولتي تشير أيضًا إلى ربط الاقتصادات العالمية بما يخدم الرؤية الصينية لمستقبل النظام العالمي القائم على فكرة تعدد الأقطاب.
كتب المفكر الاستراتيجي الأمريكي الراحل هنري كيسنجر في كتاب “النظام العالمي”، إن مستقبل النظام العالمي، بل إن مستقبل العالم كله، مرهون بالعلاقات الأمريكية الصينية والصراع بين العملاقين الاقتصاديين على ترتيب العالم، ومن الواضح أن الصراع والصدام هو السمة الغالبة التي تميز بين القوتين، وثمة مؤشرات على سباق للتسلح، بما في ذلك التسلح النووي استعدادًا للصدام المحتمل بينهما، الذي قد يتطور إلى مواجهة نووية شاملة ستدفع العالم إلى كارثة محققة. إن الحرب الدائرة الآن في مواجهة إيران التي فرضها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على الولايات المتحدة والعالم قد تكون علامة فارقة في مستقبل العالم وفي شكل النظام العالمي الجديد والبديل، مع صعود القوى الراغبة في تعديل الموقف الراهن والساعية لتعديله. ويقف العالم الآن أمام لحظة مصيرية، فإما أن ينتبه للمخاطر الكامنة في التصور الإسرائيلي للمستقبل المدفوع برؤية اليمين الديني الحاكم هناك، وفي “غياب الرؤية”، وهو سمة ملازمة للشعارات الشعبوية للرئيس ترامب، وإما يندفع في تصعيد الحرب إلى مواجهة نووية شاملة وإن تأجلت. إن تحقيق انتصار عسكري على إيران وتدمير قوتها العسكرية، وإذلال الفلسطينيين وشعوب المنطقة، سيؤدي حتمًا إلى شرق أوسط مضطرب وسيفتح الباب إلى موجات من الصراعات التي لم يعرف العالم مثيلًا لها، سوى في اللحظات المضطربة لانهيار الإمبراطوريات.
إن شعوب العالم الآن باتت رهينة في يد حكومات تتلاعب بنيران الحروب لتغيير العالم وفق لتصور عقائدي موجه بنبوءات دينية تجاوزها العالم منذ قرون، والأسواء في المشهد الراهن أن كثيرًا من المغيبين من هذه الشعوب يتمايلون طربًا مع دقات طبول الحرب مدفوعين بإيمانهم الثابت وخطابهم الذي لا يتزعزع بقرب تحقق الوعد رغم أنه لا توجد أي مؤشرات على تحققه، لكن في ظل فترات الاضطراب الكبير وما يصاحبها من غياب لليقين وعدم وضوح الرؤية للبسطاء من الناس سوى الإيمان الذي يتصورونه حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، وهو ما يجيد منظرو اليمين توظيفه لحشد التأييد لبرامجهم التي غالبًا ما يدفع البسطاء فاتورتها. لكن في ظل هذا المشهد المضطرب تظل هناك بارقة أمل ورسم خريطة طريق لمستقبل بديل يعيد إلى الشعوب، ليس فقط أحلامها المفقودة، وإنما أيضا برامج عمل لتحقيق هذه الأحلام، والبداية هي استعادة الحلم.