في أعماقٍ غير مرئية… بعيدًا عن آدم وامرأتهِ…
وفي هوةٍ من نارٍ وظلامٍ، اجتمع إبليس بجندهِ.
الوجوهُ ملتويةٌ بالشهوة… والأنفاس ملتهبةٌ بالحقدِ.
الكلُّ ينتظرُ إعلانَ الخبرِ… إبليسُ لم يأتِ ليعلن نصرًا فحسب، بل جاء ليحتفل بتأسيس مملكتهِ.
[إبليس يتقدَّم وسطهم، وصوته ساخر، منتصر، ومليان بالغِلّ:]
سَقَطوا… وأخيرًا سَقَطُوا…
مش من فوق الشجرة… بل من النِّعمةِ التي كانت ستَراهم.
آه، أتفتحت عيونهم؟!
بس مش على المجد… بل على العُريّ اللي أتولد جواهم.
بقوا عريانين من حضوره اللي كان مخليهم، في عيون بعض؛
كاملين رغم نقصهم… كافيين رغم محدوديتهم…
ثابتين، غير ساقطين، حتى في لحظات ضعفهم.
ودلوقتي…
كل واحد بقى يسمع لصوتي، ويصدق كلامي، ويشوف الثاني بعيني،
ويبص له من جوه بنظرته، كأنّي أنا اللي بأتكلم من جواه،
وأنا اللي بأحط المعنى لكل نظرة، وكل سكوت، وكل كلمة خارجة من الثاني.
بصوتي أنا، مش صوته… اللي بيتغلغل في أعماقهم.
حوّاءُ تبصّ له:أنتَ مش كفاية…
أنتَ مش نقيّ…
أنتَ مش صادق…
أنتَ مش آمن!
كان مَفروض تحميني…
تقول “لأ”… توقِفَني…
لكنّك سبتني… وسَكتّ… ووقعتّ.
كنتَ المفروض تكون قائِم، وظهري، وسَندي…
لكنّك وقعت من نظري،
لما مع أوّل مواجهة… بعتَني.
وآدم يـبصّ لها:أنتِ التي بدأتِ…
أنتِ التي سمعتِ…
أنتِ التي سكرتِ بصوت تاني وأنا غايب عنكِ لحظات.
أنتِ التي صدقتِ الكذبة… وجبتيها لبيتي.
أنتِ مش كفاية… أنتِ مش أمينة…
أنتِ مش زي ما كنتِ في عينيّ.
أنا ماعرفش أرجّعلك أمانكِ…
لأنّي لما بصّيت لِك، مابقيتش أشوف فيكِ اللي كان مطمئنّي،
بقيت شايف خوفكِ، مش بس منّكِ، لكن كمان منّي،
خوفِكِ اللي غطّى على ملامحِك اللي كانت سبب فرحي.
بقوا بيبصوا لبعض بارتباك…
مش بحنان، لكن بغضب.
مش بحب، لكن بأنانيّة.
بقوا مراية لبعض، بس مش مراية مجد…
لكن مراية مكسورة، بتجرح اللي يبصّ فيها.
بقوا في عيون بعض عريانين… مُدانين… مُهدَّدين.
دلوقتي… بَعدْ ما سَقَطوا… يِبدأ الشُّغلُ الحَقيقيّ.
مِش هَأمُوِّت آدم ومِراته مَرّة واحِدة… لأ.
هَأبني له قَبر، ما يِتْرِدِمْش فيه ويِخلَص…
لَكِن قَبر يِمشي فيه على رِجليه… كُلّ يَوم.
هَألَخبَطُه… في نَفْسُه!
هَأعمَل فيه حاجة أعمَق من الخَطيّة كونها زلة…
هَأخلّيه يِبقى منقَسِم جُوّاه:
يِتمنّى النُّور… بَسّ يخاف يعيش فيه، فيستخبّى في الظُّلْمَة!
قَلبُه يصرُخ جَعان لِلحُبّ… بَسّ لِسانُه يِجرَح اللي بيحِبّوه!
رُوحُه عايزَة تِرجَــع… تتُـــوب…
بَس ايديه، ورِجليه، وعُيونُه، كُلّها مَربوطَة بِسلاسِل في الطّين اللي غَرِق فيه.
هَأخلّيه يقول اللي مِش قاصِد يقُوله،
ويعمَل اللي مِش عايز يعمَلُه،
ويفاجِئ نَفْسُه كُل مَرّة يجرَح حَدّ بيحِبُّه،
وبَعدين يِعيّط، ويقول زيّ العِيال في عَدَم مَسؤوليّة:“ماكٌنتِش قاصد… مِش أنا!
بَسّ الحَقيقَة اللي هَأخلّيه يِهرب مِنها
بِكُلّ وسايِل السُّكر، والتَّخدير، والتَّوهان…
هِي إنّ ده أَنت.
أَنت اللي بِقيت تِتْغيَّر لِشَبَهي، وتِتشَكَّل على صورتي!
هَأساعدُه يُحِبّ وهو بيِكرَه،
ويِكرَه وهو بيِتمنّى يحِبّ،
علشان كُلّ حاجة تِفْضل مِتلَخبطَة جُوّاه،
وكُلّ علاقة تِبقى ساحة صِراع
بين اللي هو عايزُه… واللي بيِعملُه غصب عنه.
هَأخلّيه يِعيش على السَّطح…
تايِه في كُل حِتّة، وهو العايش اسمًا من بره… والمَيِّت من جُوّه!
كأن جُوّا كُل واحد فيهم، فيه جُثّة…
عايشَة مَعاه… بتِستهلك مِن أَنفاسُه،
ساكِنَة بين ضُلوعُه… وبتِتحلَّل يَوم ورا يَوم.
لَما يِنبسِط شوية… الجُثّة تِشدّه يِكتئب.
لَما يِشتاق للنُّور… يِطلَع صوتُه بِنَبرة الظُّلْمَة اللي سَاكِنَة فيه… تِخنُقه.
لَما يِجُوع ويِعطَش لِلحياة السَّليمة…
حياة الطِّين تِشُدّه بِحَمَأَتها لِأَعماق أَشَدّ فيها.
وهِنا… هايكون الصِّراع الحَقيقيّ:
مِش عارف يِخلَّص نَفْسُه…
مِن “المَيِّت اللي اتْوَلَد جُوّاه”.
مِش مَربوط بسّ بِخَطايا…
ده مَربوط بِطَبيعة جديدة عليه…
بِجَسَد مَيِّت سَاكِن فيه.
كأنّه شايل على ضَهرُه قَبر…
والمَوت يِحيا جُوّاه!
وكُلّ نَفَس بيِتنَفَّسُه…
بيِعَمِّق الحُفرَة اللي وقَع فيها.
هأخلي علاقتهم اللي بدأت بالاتحاد… تِتملي بالشك، بالتوجّس، والريبة.
هأخلي الشركة اللي كانت حضن، تبقى متاهة…
كل طرف فيها بيخبّي عن التاني مخاوفه وشكوكه.
هأخليهم يغلطوا،
وبعدين يخترعوا من ذواتهم حُلولًا مريضة… بعيدة عن إلههم.
يستروا نفسهم بـ«ورق الشجرة» اللي عرّتهم،
ويظنّوا إنهم كده اتستروا، وهُمّا في الحقيقة غطّوا علي الفساد والعَفَن.
هأحاصرهم بالخوف… من بعض، ومن نفسهم، وحتى من ربهم.
وكلّما اخترعوا لأنفسهم بأنانيّة مسلكًا جديدًا للحياة،
أزُقّهم بيه أكتر ناحية الموت.
هأخلي الحبّ بينهم يتآكل ببطء…
هأخلي العيلة، اللي المفروض تكون «صورة من الملكوت»…
تبقى الاستعلان الأكبر للجحيم على الأرض،
والدليل اليومي إن النار مش تحت… النار جواهم.
هأخلي تربيتهم لعيالهم تتحوّل لساحة صُراخ،
وعويل، وضغط بيزيد، وأعجنهم في الضجيج والتوهان،
لحدّ ما يسمّوا العنف… “مسؤوليّة”،
والتسلط… “سيادة”،
والغيرة المريضة… “حُب”،
والإهانة والعنف… “تربية”،
والقمع… “حماية”.
هأخليهم يتكلموا…
بس كل كلمة تِرشق في المكان الغلط،
وتِترجم غلط: بخوف، أو اتّهام، أو دفاع.
هأخلي كلّ واحد يبني حوالين قلبه مش سور…
يبني متاهة، ومفتاحها مش بس يخبّيه…
ده كمان ينساه!
ويبدأ يتعوّد إن الوجع جواه هو الطبيعي،
وإن اللي قدّامه مش شريك… بل متفرّج، أو خصم!
هأصنع لهم جحيم…
مش بنار، لكن بنظراتٍ تحرق،
وكلماتٍ تجرح، وصمتٍ يخنق،
وإهمالٍ يُطفئ جواهم روح إنّهم موجودين.
هأحوّل البيوت…
من مأوى لساحات حرب،
ومن أماكن راحة لمحطّات نزيف،
لحدّ ما الأرض اللي بيعيشوا عليها تبقى فعلًا غير قابلة للسُّكنى،
مش لأنها مهدومة،
لكن لأنهم بقوا غرباء عليها.
هخلّيهم لما يخلّفوا،
ما يشوفوش عيالهم «بـركــة»…
يشوفوهم «مرايات مكسّرة بتفضحهم»،
بتفكّرهم كلّ يوم إنهم فشلة… عاجزين.
كلّ واحد هيبصّ في عين ابنه أو بنته…
هيشوف الوجع اللي ما عرفش يداويه جواه.
هيشوف ضعفه، وعجزه، وجُرحه اللي سابه مفتوح من غير علاجٍ حقيقي.
بس دلوقتي… الوجع بقى ليه ملامح،
متجسّد قدّامه… وله صوت… وبكاء وصراخ.
هيشوف «صورته الحقيقية»
اللي اتردمِت بالتراب لسنين… مكسورة، منحنية،
وبتبصّ له،
وبتسأله بأنين مكتوم بيخرّج الوجع:
ــ “ليه ورّثتني وجعك وجرحك؟
ــ ليه زرعتني في نفس الأرض الناشفة، الميتة، اللي مِتّ فيها؟
ــ ليه ما وقفتش اتجاه الموت ده عندك؟
ــ ليه هربت؟ ليه سوفت؟ ليه خدّرت نفسك؟
ــ وليه… وليه… وليه؟!”
لحدّ ما يبقى مش قادر يهرب…
بأي وسيلة من اللي اتعود عليها واتقنها… حتى المُخدّرات!
وحتى لو لحظة ندم نَوَّرت،
يكتشفوا إنهم مش قادرين يصلّحوا،
لأنّ الندم عندي مش طريق رجوع…
لكنه مُخدّر ناعم قوي
من ضميرٍ مُخادع، مُتكبِّر!
كلّ ما يحاولوا ينسوا… هفكّرهم.
مش عشان يتوبوا… لأ!
لكن عشان يغرقوا في الندم،
وحياتهم تتشلّ بمشاعر الذنب والخوف اللي بتاكلهم حتّة حتّة…
من بلاويهم وآثامهم، اللي كانوا فاكرينها اتنَسِت… وانتهى تأثيرها!
وكلّ ما يحاولوا يفتكروا… هأنسيهم.
وألْهيهم بالضجيج، وبالمشغوليّات، وبالركض ورا الفاضي…
ورا اللي ما يسدّش فراغهم، ولا يشبع جوعهم،
ولا يروي عطشهم.
لحدّ ما الإيمان يبقى «ذكرى باهتة»،
والرجاء… يبقى «صوت بيتكتم» كلّ مرّة يقرب يطلع!
وكلّ ما يصلّوا طالبين العون،
ههمس في ودانهم، بكلمات قليلة مسمومة، محمولة على أسهم من نار:
«فينه إلهكم؟»
سايبكم ليه؟
ناسيكم؟
ولا أصلًا مش سامع؟
ولا يمكن… مش موجود خالص؟
أنــــا مش بس بفرح النهــارده…
أنــــا ببدأ فــوضـى هــلاك
مش لآدم بس… لكلِّ الأجيال اللي جايه بعده.
أنــا سيِّــد الموت والمقابر والجحيم.
أنــا سيِّــد الموت، اللابس بالأكاذيب ثوبَ الحياة.
أنــا سيِّــد الموت… الموت البطيء،
اللي بيتسلَّل جُوَّه النفس، ويعيش فيها على هيئة شُكوك،
وظُنون، وأكاذيب، وأنصاف حقايق،
ويتنفَّس فيهم على شكلِ صوتِ العقلِ والمنطق.
وكل ده مش بس تهديد…ده وعدٌ منِّي كمان.
وعد أخدتُه على نفسي من اللحظة اللي قلتلكم فيها:
«لــن تــمــوتــا».