المقال رقم 9 من 9 في سلسلة الخلاص بين الشرق والغرب

نواصل الحديث عن دحض أوهام البعض بوجود بدلية عقابية في تعليم ق. كيرلس السكندريّ، لاهوتيّ ال وّ في المسيح، من خلال دراسة مقارنة بين تعليم ق. كيرلس السكندريّ حول تدبير الخلاص، وتعليم حول والكفارة، ويُعتبر چون كالفن أحد أهم منظري البدلية العقابية، إنْ لم يكن الممثِّل الأساسيّ لنظرية البدلية العقابية في شرح الفداء والكفارة، والهدف من هذه الدراسة المقارنة هو توضيح: ما هي البدلية العقابية؟ وما هي عناصر التعليم بالبدلية العقابية؟ وكيف أقول إن هذا الأب أو غيره من آباء الكنيسة لديهم تعاليم عن البدلية العقابية؟

مفهوم الدين

يرى ق. كيرلس السكندريّ أن الله خلَّصنا وسدَّد عنا ديوننا مجانًا بلا مُقابل بسبب إحسانه ومحبته، وذلك في سياق شرحه لشريعة تحرير العبيد وإيفاء الديون في السنة السابعة، فيما يُعرَف بـ”شريعة سنة اليوبيل“. ونرى بوضوحٍ المنحى الشفائيّ الخلاصيّ عند ق. كيرلس، حيث يرى ق. كيرلس إنه غاية تدبير المخلِّص هي شركة الروح القدس، وشركة الطبيعة الإلهية أي التأله بالنعمة. بالتالي نجد مفهوم ق. كيرلس عن الدَّين في سياق شرح تدبير خلاص الرب بعيد تمامًا عن مفهومه عند اللاهوت الغربيّ بشقيه المدرسيّ واليّ، كالتالي: [1]

وقد خلَّصنا مجانًا بنعمة الله من دون أن نُعطِي أيّ مُقابل لحياتنا واشترينا مجد الحرية، لكننا نلنا البر بسبب إحسان السيد ومحبته، وهذا ما عبَّر عنه في سفر التثنية قائلًا: فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إِبْرَاءً. وَهذَا هُوَ حُكْمُ الإِبْرَاءِ: يُبْرِئُ كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. لاَ يُطَالِبُ صَاحِبَهُ وَلاَ أَخَاهُ، لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِإِبْرَاءٍ لِلرَّبِّ. الأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ يَدُكَ مِنْهُ. إِلاَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيكَ فَقِيرٌ. لأَنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا يُبَارِكُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِتَمْتَلِكَهَا [2]. هل رأيت كيف تُشرِق الحقيقة من داخل الظلال؟ وبوضوحٍ تامٍ سوف يظهر تدبير المخلص لأجلنا؛ بمعنى أنه حرَّر الذين اقتربوا إليه من ديونهم بواسطة الإيمان، وصِرنا أخوةً بمشاركة الروح القدس. ولكي يصيروا [3]، حرَّرهم دون أن يدفعوا شيئًا. حقًا، لم يفرض عليهم عقابًا بسبب عصيانهم، مع أنهم مديونون بإعطاء جواب عن أعمالهم.

(كيرلس السكندري، السجود والعبادة بالروح والحق)

يُؤكِّد ق. كيرلس في سياق شرحه لتدبير الخلاص على وجودنا الكيانيّ في المسيح في أثناء صلبه وهكذا معموديتنا في اسمه بسبب احتوائنا في المسيح، حيث يقول التالي: [4]

إذًا، بما أن المسيح لم يُوزَّع، بل الكل ملكه، والجميع خاصون به، وبما أنه صُلِبَ لأجلنا واعتمدنا في اسمه، فمن الواضح أننا احتُوِينا فيه، ولا ننتمي لإنسان مثلنا، بل إلى الله. بالتالي المسيح لنا هو الله.

(كيرلس السكندري، رسالتان عن الإيمان القويم إلى الملكات)

ويشرح ق. كيرلس في موضع آخر مفهوم الدَّين، وعلى عكس نظرية البدلية العقابية في اللاهوت الغربيّ التي تقول بتسديد الابن لدَّين الخطية الذي كنا مديونين به لله الآب عن طريق معاقبته كبديل عقابيّ عنا، حيث يرى ق. كيرلس أننا سدَّدنا في شخص المسيح نفسه جزاء اتهامات إبليس لنا بسبب الخطية، وذلك بإبطال حكم الموت الذي كان نتيجة العصيان والتعدي كالتالي: [5]

لأن الخطية ملكت على كل مَن على الأرض، لذا انجذب كثيرون من الأحداث إلى الشرور كما هو مكتوب [6]، وقد أصرَّ الجميع تمامًا على تحقيق كل ما يريدونه، وهكذا وجدنا أنفسنا حتمًا محسوبين لحكم الموت. لأن حكم الموت كان نتيجة مخالفة الناموس الإلهيّ وعدم الطاعة للإرادة الإلهية. ولذا حزن الخالق على طبيعة الإنسان التي فسدت؛ وصار الوحيد الجنس إنسانًا، وجعل جسده يحتمل الموت لأجلنا، ذلك الذي تسلَّل إلينا بسبب الخطية؛ لكي بموته يُبطِل الخطية ويُوقِف اتهامات نحونا، لأننا سدَّدنا في شخص المسيح نفسه جزاء اتهاماتنا بسبب الخطية؛ لأنه وفقًا لكلمات النبيّ: هو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين [7]. أو ألم نُشفَ بآلام ذاك؟.

(كيرلس السكندري، السجود والعبادة بالروح والحق)

يرى آباء الأرثوذكسية وق. كيرلس السكندريّ أن الدَّين هو دَّين الموت، وإيفاء الدَّين هو إبادة الموت، ورد الحياة للإنسان الذي أضاعها بالخطية، فجلب على نفسه حكم الموت. ولما كان الإنسان المخلوق من العدم ليس له الحياة في ذاته، بحيث يستطيع أن يغلب الموت، لذا اقتضت حكمة الله أن يجوز مَنْ كان هو الحياة بطبيعته الموت بجسده، ويقوم من الموت، فيرد الحياة للمائتين.

دحض نظرية الإبدال العقابي

يدحض ق. كيرلس فكرة الإبدال العقابيّ بتقديم الابن كبديل عقابيّ عن البشرية الخاطئة لإرضاء كرامة الآب المهدرة التي أهانها البشر بالخطية، ولتهدئة وتسكين غضب الآب على البشرية الخاطئة، حيث ير ى ق. كيرلس أن الآب أعطانا ابنه فداءً عنَّا نحن الذين كنا مُستعبَدين لخطايا كثيرة، وخاضعين للفساد والموت كالتالي: [8]

لقد كنا مُستعبَدين لخطايا كثيرة، خاضعين للفساد والموت، فأعطانا الآب ابنه فداءً عنَّا. الواحد عن الكل، لأن الكل فيه، وهو فوق الكل. واحدٌ مات عن الكل، لكي يحيا الكل فيه. لقد ابتلع الموت 'الحمل‘ الذي كان ذبيحة خطية للكل، ولكن الموت تقيأ الحمل ومعه كل الذين فيه. لأننا جميعًا في المسيح الذي مات وقام بسببنا ولأجلنا. لقد أُبِيدت الخطية، فكيفى يبقى الموت الذي نتج عنها وبسببها، ألا يتلاشى هو أيضًا وينتهي إلى لا شيء. لقد مات الجذر، فكيف تعيش الأغصان أو تبقى؟ وكيف نموت نحن بعد أُبِيدت الخطية؟ لذلك، نُسرّ بذبيحة حمل الله، ونقول: أين شوكتك يا موت؟ أين فلبتك يا هاوية؟ [9].

(كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 1)

دحض نظرية إيفاء العدل الإلهيّ

يدحض ق. ّ فكرة إيفاء العدل الإلهيّ والإبدال العقابيّ بتقديم بريء عوضًا عن آخرين خطاة كالتالي: [10]

لأنه حتى لو أن قانون العدالة أعتبر أنه من العبث تمامًا معاقبة آخرون بدلًا من أولئك الذين أخطأوا بالفعل، فيجب، إذًا، أن يكون واضحًا للجميع أنه من المحتمل أن يسلم المرء بأنه لا يوجد شيء أكثر بؤسًا من أولئك الذين يعبدونهم كآلهة، إذا كانت القوانين ومُديِّري كل شيء غير قادرين على الحكم على نحو صحيح عند تكليفهم للقيام بذلك. من الواضح أنه لدينا مَن يحكم على كل شخص بشكلٍ صحيحٍ، وهم في الواقع الأفضل، لأنهم يحترمون العدل كما هو مناسبٌ، في حين أنهم يعتقدون أن مَن تثبُت مسئوليتهم عن الجرائم التي ارتكبوها، فهم مكرهون، ويلزم مُعاقبتهم بما يتناسب مع الأفعال السيئة التي أُدِينوا بسببها. حسنًا، يا سيدي العزيز، هذا بالضبط ما يعتقد شعراؤك وكُتَّابك البارزون أيضًا حول هذا الشأن، فاِسمع إلى ما يقوله أحد حكمائنا: حماقة الرجل تعوج طريقه، وعلى الرب يحنق قلبه [11]. بالتالي، إذا كان المرء خاليًا من الحماقة، فلن يُفسِد طريقه، ولن يتهم الطبيعة الإلهية على الإطلاق بأنها تحثه على ما حرمته تلك الطبيعة نفسها.

(كيرلس السكندري، الرسائل الفصحية الخمسة الأولى)

ويربط ق. كيرلس بين العدل والصلاح والرأفة في حادثة شفاء الرب يسوع ل قائلًا: [12]

لذلك كان حكم المخلص عادلًا وصالحًا ولم يعوقه حتى يوم السبت عن أن يكون رؤوفًا عطوفًا على العليل، لكنه إذ هو الإله يعرف كيف يتمم هذا الأمر؛ لأن الطبيعة الإلهية هي نبع الصلاح، وهذا ما فعله حتى يوم السبت.

(كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 1)

 

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. كيرلس السكندري، السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة: د. إبراهيم، ، 2017، المقالة السابعة، ص 288. [🡁]
  2. سفر التثنية 15: 1-4 [🡁]
  3. أنظر رسالة بطرس الثانية 1: 4 [🡁]
  4. كيرلس السكندري، رسالتان عن الإيمان القويم إلى الملكات، ترجمة: د. چورچ عوض، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2019، الرسالة التوضيحية الأولى، ص ١٠٨. [🡁]
  5. كيرلس السكندري، السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة: د. چورچ عوض إبراهيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، المقالة الثالثة، ص 140، 141. [🡁]
  6. سفر التكوين 6: 5 [🡁]
  7. سفر إشعياء 53: 12؛ إنجيل يوحنا 1: 29 [🡁]
  8. كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 1، ترجمة: د. وآخرين، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015، تعليق على (يو 1: 29)، ص 153. [🡁]
  9. رسالة بولس اﻷولى إلى كورنثوس 15: 55؛ سفر هوشع 13: 14 [🡁]
  10. كيرلس السكندري، الرسائل الفصحية الخمسة الأولى، ترجمة: د. عبد الملك، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، الرسالة 5: 4، ص 125. [🡁]
  11. سفر الأمثال 19: 3 [🡁]
  12. كيرلس السكندري، شرح إنجيل يوحنا مج 1، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015، ص 287. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخلاص بين الشرق والغرب[الجزء السابق] 🠼 تدبير الخلاص عند كيرلس السكندري [٥]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎