روما… صيف ١٩٤٣.

لم تكن أجراس بازيليكا القديس بطرس تقرع، بل أجراس الحرب.

على بعد أمتار من أسوار ال، كانت الشاحنات الألمانية تجوب الشوارع، والجنود بخوذاتهم الرماديّة المقيتة يقتادون البشر كما تُقتاد البضائع.

كان البابا بيّوس الثاني عشر، أوجينيو باتشيللي، يقف عند نافذته، لا ينظر إلى السماء، بل إلى الأرض. إلى رعبٍ يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، لا حاجة فيه لنبوءات الرؤى ولا لتقارير السفراء.

ما كان يقرأه بالأمس في الجرائد، وما شاهده بجمود على شاشة التلفاز في أروقة البلاط البابوي، صار الآن مشهدًا يوميًّا من شُرفته.

اليهود، الذين كانوا “خبرًا دوليًّا” في الجرائد والراديوهات، أصبحوا أمام ناظريه.. وجوهًا مرعوبة، تُقتاد عبر ساحاتٍ يعرفها، إلى مصيرٍ لا يجهله!

روما لم تعد أبدية، بل مدينة خائفة.

والڤاتيكان لم يعد دولةً مستقلة، بل قفصًا مذهبًا.

كانت الأنباء التي وصلت إلى مكتبه تشي بما هو أسوأ:
، الغاضب من خطبه الرمزية ومن لُغته الدبلوماسية، يخطّط لاعتقاله.
“ضربةٌ استباقية”، كما سُمّيتْ في تقرير أحد الكرادلة القادمين من برلين.
البابا قد يُختطف، وقد يُنقل إلى ألمانيا.
مَن يحكم الكنيسة إن اختُطف رأسها؟
ومن يحمي الكرسيّ الرسولي إن صار أسيره؟
ومَن البابا حين يُؤخذ عنوةً من غرفته؟

في مساءٍ خانق، اجتمع بالكرادلة الأقرب إليه، لا ليصلي، بل ليُعلن قرارًا.
اسمعوا، قال بصوتٍ لم يرتجف،
لكنه لا يعرف المستقبل
حين يدخلون عليّ، حين يضعون أيديهم عليّ، لا يعود في الغرفة بابا.

صمتوا.
فأكمل:
في اللحظة التي يُقبض فيها عليّ، لا يعود مَن يُؤخذ هو خليفة بطرس، بل رجل اسمه أوجينيو باتشيللي، رجلٌ لا يحمل مفاتيح الملكوت، بل فقط صليبه الشخصي.

كان يعلم أن التاريخ سيحاكمه، إن تكلّم أو صمت.
لكنه لم يشأ أن تُستغلّ صورة المسيح وعباءة بطرس في ساحة معركة أرضية.
كان يريد أن يقول: “إن الكنيسة لا تُؤخذ بالقوّة، وإنّ البابا لا يُعتقل بل يستقيل.”
وإن اعتُقل، تستمرّ الكنيسة من غيره.
يستطيع هتلر بمخابراته أن يعتقل البابا لكنّه لن يقدر على اعتقال الكنيسة.

خارج الجدران، ظلّت الشاحنات تمرّ، والأنين يتصاعد من الأزقّة.
أما داخل جدران الفاتيكان، فكان البابا قد حسم معركته الشخصية:
لن يكون شاهد زور باسم السماء.
وإن اختطفوه، فليأخذوا رجلًا، لا منصبًا.

في الغد، أفاقت روما على صمتٍ غير عادي.
لم يكن الجنود قد دخلوا بعد،
لكن في قلب الڤاتيكان، كان رجلٌ واحد قد سبقهم بخطوة،
ووقّع قرارًا غير مكتوب:
“أنا لم أعد البابا… إنهم لم يأخذوه. لقد تركته أنا، طوعًا.”

في تلك الليلة، لم يكن القرارُ ورقيًّا ولا لاهوتيًّا فحسب، بل إنسانيًّا، خافتًا، وسريًّا.
أوصى البابا مَن حوله:
“افتحوا الأديرة، خبّئوا الإخوة اليهود في الممرّات والمصليات، في المكتبات والأقبية، دعوا الكنيسة تكون ظلًّا للهاربين، لا مرآةً للجلادين.”
ثم عاد إلى غرفته، لا ليختبئ، بل لينتظر.

جلس تحت صليبٍ خشبيّ بسيط، لا يحمل التيجان ولا الألقاب، ووضع أوراقه جانبًا.
لم يوقّع على استقالة، بل شعار التحدّي السرّيّ والصامت.
قرّر أن يبقى في مكانه، صامتًا، مصلّيًا، حتى تُفتح الأبواب بعنف.

لم يقبضوا عليه تلك الليلة.

لكن في أعماقه، كان قد أُخذ فعلًا… لا كأسير، بل كشاهد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چون جبرائيل الدومنيكي
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎