منذ ظهور أزمة على سطح مواقع التواصل اﻻجتماعي خلال الأسبوع الماضي، وأنا أحاول متابعة مختلف ردود اﻷفعال وتكوين صورة عن الموضوع بشكل موضوعي قدر اﻹمكان، وأحاول في هذا المقال أن أضع بضع نقط نظام للتعاطي مع هذه القضية.

بداية ﻻ خلاف أن دير سانت كاترين في محافظة جنوب سيناء بمصر، أثر إنساني مهم قبل أن يكون مسيحي، يجب اﻻهتمام به والحفاظ عليه لأنه يمثل تراث للإنسانية كلها، وهنا يجب أن يحتفظ الدير بهويته الدينية ووضعه منذ أن تم إنشائه في عهد اﻹمبراطور جستنيان في منتصف القرن السادس الميلادي، وﻻ يُنتزع من رهبانه الذين يسكنوه من الروم اﻷرثوذكس، ومن حقهم الحفاظ على طقوسهم ونمط الصلاة الخاص بهم، لكن تفصيلة أن الدير يتبع طائفة الروم اﻷرثوذكس تحتاج للعودة للتاريخ وتفكيك بعض العقد المتشابكة.

عودة تاريخية ﻻ بد منها

لقد كانت هوية كنيسة اﻹسكندرية في القرون الأربعة اﻷولى يونانية، أي إن إنتاجها الفكري واللاهوتي والفلسفي كُتب باللغة اليونانية، التي ظلت لغة أهل اﻹسكندرية مدة تجاوزت 7 قرون منذ أن جاء اﻹسكندر مصر في 332 ق. م وحتى  بعد مجمع المسكوني في عام 451م، الذي انتهى بانشقاق إثنين من الكراسي اﻷربعة الكبار وهم (مصر)، و (سوريا) عن (تركيا اليوم) و (اللاتين)، ومنذ هذا اﻻنشقاق حدث نزاع حول كرسي أنطاكية وكرسي اﻹسكندرية مع الموافقين على قرارات مجمع خلقدونية، وهنا عزل الإمبراطور بطاركة الإسكندرية وسوريا ووضع بطاركة جدد من عنده، تم تلقيبهم شعبيًا باسم “البطاركة الملكيين” [نسبة إلى الملك الذي عينهم]، وبالمقابل، تم تلقيب اللا-خلقدونيين باسم “اليعاقبة” [نسبة إلى يعقوب البرادعي]، واستمر النزاع بين الملكانيين واليعاقبة وكل طرف يرى أنه اﻷصح، وصاحب الحق.

وصار اسم كنيسة اﻹسكندرية هو “القبطية اﻷرثوذكسية”، احتماءًا بالهوية المصرية في مواجهة الملكانية، وصار اسم كنيسة أنطاكية “السريان اﻷرثوذكس” احتماءًا بالهوية السريانية أيضًا، وتولد عن هذا النزاع وجود طائفتين أو 2 بطاركة لنفس الكرسي أحدهم يعقوبي، واﻵخر ملكاني، وبينما يتهم اﻷقباط الروم بأنهم مفروضين من الإمبراطور، يتهمهم الروم بأنهم على ضلال وأنهم الممثلين الحقيقيين لكرسي الإسكندرية الذي أسسه القديس مار مرقس.

بعدها بدأت ال في التحول للغة المصرية القديمة وكتابتها بالحروف اليونانية ما تعرف اليوم باسم “القبطية”، في مواجهة اليونانية لغة الامبراطورية الرومانية الثانية (البيزنطية)، ليبعد كل فريق عن اﻵخر، وما أود أن أشير إليه هو أن لل  تعتبر نفسها كنيسة مصرية أصيلة والممثل الحقيقي ل [1].

هل الدير أرض يونانية؟

بعد تفكيك الوضع تاريخيًا، لماذا يرفع رهبان الدير علم اليونان؟ ولماذا يروجون إلى أن الدير أرض يونانية وطائفة الروم في مصر تعتبر نفسها طائفة مصرية أصيلة والوريث الشرعي الذي حافظ على الإيمان المسلم من القديس مرقس؟ بل ويطالبون معاملة الدير مثل معاملة السفارات، أي إن المصريين ليس لديهم سلطة عليه، وﻻ يخضع لهم، بل أرض ملك لهم يفعلون بها ما يشاؤون وليس للدولة المصرية أن تتدخل.

هذا الوضع غير مقبول ﻷن الدير ليس بسفارة أو هيئة دبلوماسية أو سياسية، وﻻ يمكن اﻻفتئات واﻻعتداء على هويته الدينية والتراثية، التي هي ملك لمصر، والمصريين هم حراس للحفاظ عليها من أجل اﻹنسانية مجتمعة، كما أنه غير مقبول ﻷي مواطن مصري أصيل أن يرضى بالتفريط بأرضه، خاصة لو كانت هذه اﻷرض جزء من سيناء الغالية، التي دافع عنها المصريين واستردوها بعد احتلال بدماء خيرة شباب مصر في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي.

تمزق الدير بين قبائل الروم

نعود للتاريخ مجددًا، في محاولة لتفيكك بعض التشابكات، ظل كرسي القسطنطينية قويًا متماسكًا رغم أنه انشق عن كرسي روما في 1054م فيما عرف تاريخيًا باسم “اﻻنشقاق الكبير”، ولكن بعد سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين 1453م، بدأ كرسي القسطنطينية في اﻻندثار، وانتقل ثقله وتأثيره إلى اليونان وروسيا، وعدة دول في شرق أوروبا مثل جورجيا ورومانيا وأوكرانيا، إضافة للمتواجدين في اﻹسكندرية وأنطاكية وأورشليم (القدس) وأصبح لكل بلد منهم بطريرك وكل هذه الكنائس تكون عائلة (اﻷرثوذكسية الخلقدونية).

مع الجدل الدائر بسبب حكم محكمة استئناف اﻹسماعيلية في 28 مايو بشأن الدير، دخلت أطراف عديدة على الخط، ففي حين أن الدير يبدو أنه له وضع خاص ومستقل وسط عائلة الروم اﻷرثوذكس،  فإن الصوت اﻷعلى كان من اليونان سواء من الكنيسة أو الحكومة اليونانية باعتبار أن الدير يخصهم [2]، في المقابل دخل بطريرك كرسي أورشليم للروم اﻷرثوذكس ليعلن موقفه ببيان رسمي يوضح أن الدير مملوك لكرسي أورشليم [3]، وهذا الكرسي له مشاكله منذ بداية اﻷلفية الثالثة حيث تم عزل البطريرك السابق ﻷنه باع كثير من ممتلكات كنيسة الروم في اﻷراضي المقدسة لمستثمرين إسرائيليين.

وهنا يبدو أن الموضوع أصبح يمسّ الأمن القومي المصري حرفيًا. فكل ما يقع في سيناء هو أمن قومي بالنسبة للدولة المصرية. فغير مقبول رفع علم اليونان على الدير، أو علم أي دولة أخرى. وليس من حق أحد، ولا الحكومة المصرية نفسها، أن تُبرِم اتفاقات مع أي طرف بشأن أرض مصرية وأثر مصري. وما أقوله لا يعني تغييرًا في هوية الدير، سواء العقائدية أو الطقسية أو حتى تغيير سلطة القائمين عليه من رهبان ينتمون لطائفة الروم الأرثوذكس، بل هي نقطة نظام تؤكد أنه أثر مصري على أرض مصر، قائم عليه رهبان من طائفة الروم الأرثوذكس وكنيستهم عضو في مجلس كنائس مصر المؤسس في فبراير 2013 [4].

صورة الدولة المصرية

في قصة دير سانت كاترين تبدو الدولة المصرية في صورة المتهم، وخطابها خرج بصيغة المدافع عن النفس، ومحاولة نفي تلك اﻻتهامات بنزعها للدير وطرد رهبانه، بالتأكيد على أنه ﻻ مساس بالدير أو رهبانه، وإن كانت الدولة على حق في أزمة سانت كاترين، فهي مسؤولة بسبب مواقف سابقة تصرفت فيها بغير رشد سواء مع البيئة والمحميات الطبيعية والشجر عند إقامة مشروعات سياحية، أو تنموية، وكذلك مع المقابر اﻹسلامية في قلب القاهرة القديمة، بالتعدي على بعضها خلال مشروعات إنشاء طرق جديدة، وكذلك جانب كبير من اﻷشجار القديمة والمهمة في قلب القاهرة تم قطعها بسبب التطوير، ما جعلها في مرمى سهام اﻻنتقاد، ويجب أن تنتبه الحكومة الحالية والحكومات القادمة فيما بعد إلى أن التراث واﻵثار والبيئة لهم اﻷولوية قبل أي مشروع مهما كان مفيد وتنموي ويفيد اﻷجيال القادمة.

موقف الدولة من توسع اﻷديرة

غير خفي أن جانب من أزمة سانت كاترين هو اقتصادي بحت، بالتالي القضية التي صدر فيها حكم اﻻستئناف ﻻ تخص حيز الدير اﻷثري، بل تخص مواقع وممتلكات أضافها رهبان الدير إلى ملكيتهم، واﻷكيد أنها أراض ملك للدولة المصرية، وهنا رغم سمعة الدولة المصرية التي جعلتها في موقف دفاعي، إلا أنها على اﻷقل منذ عام 2014، وهي تتعامل مع ملف الكنائس واﻷديرة والمنشئات المسيحية بشيء من الرشد، فقد صدر قانون لبناء الكنائس عام 2016 ورغم اﻻعتراضات عليه، إلا أن الدولة تستخدمه في تقنين أوضاع كنائس قائمة قبل عشرات السنين، بل ومع بناء مدن جديدة في الظهير الصحراوي للمدن القديمة، يتم تخصيص أراضي لبناء كنائس بتلك المدن من قبل هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.

وفي مواقف سابقة استخدمت الدولة التفاوض لحل مشكلات بعض اﻷديرة كما حدث في قصة دير اﻷنبا مكاريوس السكندري في وادي الريان، وهي قصة مركبة ﻷن رهبان الدير لم تعترف بهم الكنيسة كدير رسمي، وكانوا ينتفعون بأراض حول موقع الدير اﻷثري [5]، وتم استخدام التفاوض كآلية لحل تلك اﻷزمة، وفي وقت سابق منحت الدولة في عهد الرئيس مساحة أرض لدير اﻷنبا مقار ليتم استصلاحها نظرًا لمجهود الدير ورهبانه في استصلاح وزراعة اﻷراضي وفق منهج علمي، وفق ما ذكره لي الراحل اﻷب في لقاء سابق.

المجتمع المدني والرقابة الشعبية

بما أن أزمة سانت كاترين تخص موقع أثري وتراثي مسيحي هام، فيجب أن يكون للمجتمع المدني والمهتمين باﻵثار من أساتذة الجامعة والجمعيات الأهلية المختلفة دورًا، ليكونوا ممثلين عن عموم الشعب المصري ومراقبين ﻷي اتفاقات تخص أثر مصري هام، إضافة للمؤسسات الدولية ذات الصلة مثل منظمة اﻷمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (ال) التي كان للحكومة المصرية تعاون معها سابقا لحفظ المعابد واﻵثار المصرية القديمة من الغرق في أسوان والنوبة، وقت بناء السد العالي، بالتالي حين تدخل هذه اﻷطراف سيكون هذا ضامن  ومطمئن لجميع اﻷطراف بالحفاظ على الدير.

وأؤكد مجددًا أن دير سانت كاترين هو أثري مصري وتراث مسيحي وإنساني يجب الحفاظ عليه، وهي مسؤولية رهبانه والقائمين على رعايته، وﻻ يمكن انتزاعه منهم أو تغيير هويته، وفي نفس الوقت ﻻ يمكن اعتباره يخص دول أخرى وهو قائم على أرض مصر، والهوية اليونانية لرهبانه، هي جزء أصيل من تاريخ المسيحية والكنيسة عمومًا، ومسؤولية الدولة وقطاعات المجتمع المدني المختلفة، والمهتمين بحفظ وحماية اﻵثار المصرية.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. شبكة الكلمة: موجز تاريخ انشقاق الكنائس: الفصل الثالث: مجمع خلقيدونية سنة 451م. [🡁]
  2. ڤينديكتوس مجدي: رئيس أساقفة أثينا وسائر اليونان السيد : بشأن القضية التي نشأت حول دير القديسة كاترين في جبل سيناء المقدس، بتاريخ 30 مايو 2025.. [🡁]
  3. صفحة بطريركية الروم الأرثوذكس الأورشليمية في غزة: بشأن قرار المحكمة المصرية فيما يخص دير القديسة كاترينا في سيناء، بتاريخ 30 مايو 2025. [🡁]
  4. ، كيف تملكت اليونان مُقدسات في سيناء المصرية؟ بتاريخ ۳ يونيو ٢٠٢٥. [🡁]
  5. باسم الجنوبي، كلمتين ﻻزم تعرفهم قبل أي كلام عن “وادي الريان”. بتاريخ ۳۱ مايو ٢٠٢١. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

پيتر مجدي

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- ، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎