في الانتخابات البابوية الأخيرة بال، تحققت المقولة التي تقول من يدخل مجمع الكرادلة بابا يخرج كاردينالاً. فقد تَكَهَّنَ كثيرون حول العالم بأسماء العديد من الكرادلة قبل بدء عملية التصويت. وحين خرج الدخان الأبيض، اعتقد البعض أن وزير خارجية ال، الكاردينال الإيطالي بيترو بارولين، أصبح البابا، إلى أن خرج من الشرفة الكاردينال الأمريكي روبرت فرنسيس بريفوست الذي اختار لنفسه اسم ال [1] الرابع عشر ليكون البابا رقم ٢٦٧ لكرسي القديس بطرس في روما. ومن بعدها، خرجت العديد من التكهنات حول البابا الجديد، وربط البعض كونه أمريكيًا بالصورة الفانتازية التي نشرها الرئيس الأمريكي دونالد لنفسه مرتديًا زي بابا الفاتيكان، وكأن هذا الاختيار تدخلت فيه الولايات المتحدة بنفوذها، أو أن الكنيسة قررت الخضوع للرئيس الأمريكي.

التنوع في الدراسة والنشأة

البابا ليو الرابع عشر، في رأيي، ليس أمريكيًا فقط؛ فهو يمثل التنوع والانتشار اللذين تحتويهما الكنيسة الكاثوليكية. ولد في ١٤ سبتمبر ١٩٥٥ بمدينة شيكاغو، ولاية إلينوي، بالولايات المتحدة الأمريكية، من أباه: لويس ماريوس بريفوست، ذو الأصول الفرنسية والإيطالية، ووالدته: ميلدريد مارتينيز، ذات الأصول الإسبانية. كما خدم في بيرو لفترة طويلة، ويتحدث عدة لغات، منها الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والإسبانية واللاتينية والألمانية. حصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة فيلانوفا في بنسلفانيا عام ١٩٧٧، ودبلوما في علم اللاهوت من الاتحاد اللاهوتي الكاثوليكي في شيكاغو. وفي سن السابعة والعشرين، أرسله رؤساؤه إلى روما لدراسة القانون الكنسي في جامعة القديس الحبريّة (الأنجيليكوم)، ثم رُسِمَ كاهنًا في ١٩ يونيو ١٩٨٢ [2].

تُجمع خبرته في إعطاء العلم قدره بجانب الإيمان، وهذا التوازن بين العلم والإيمان لم تنجح أي مؤسسة دينية حول العالم في تحقيقه بقدر ما فعلت الكنيسة الكاثوليكية، بعد قرون طويلة من معاداة العلم. والدليل أنها كنيسة تُدرك التطور، ونظرية الانفجار العظيم التي تُوضح لنا كيف بدأ الكون، دون أن تفقد إيمانها بالله.

كان الانطباع الأولي عن البابا ليو أنه سيستكمل خط ال الاجتماعي الخاص بالاهتمام بالفقراء والمهمشين، لكن قد يختلف معه في النهج اللاهوتي. فهو ينتمي للرهبنة الأوغسطينية، وهي تختلف عن الرهبنة اليسوعية (الجزويت) التي انتمى إليها سلفه الراحل البابا فرنسيس. والرهبنة الأوغسطينية نسبة لل، أسقف هيبو، أحد الآباء المؤثرين في الفكر اللاهوتي للكراسي الرسولية في الشرق والغرب قبل الانشقاق الأول عقب مجمع خلقدونية عام ٤٥١م.

الخطاب الأول يرسم ملامح طريقه

عقب إعلان اختيار الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست، مساء الخميس ٨ مايو الجاري خرج من الشرفة الرئيسية في بازليك القديس بطرس بالفاتيكان ليلقي تحية إلى الحضور والعالم أجمع الذي كان ينتظر البابا الجديد وقال: [3]

السلام معكم جميعًا! أيها الإخوة والأخوات الأحبّاء، هذه هي أول تحية للمسيح القائم من بين الأموات، الراعي الصالح الذي بذل حياته في سبيل قطيع الله. وأرغب بدوري أن تدخل هذه التحية المفعمة بالسلام إلى قلوبكم، وأن تبلغ بيوتكم، وكل إنسان أينما كان، إلى جميع الشعوب، إلى كل أرجاء الأرض. السلام معكم جميعًا.

هذا هو سلام المسيح القائم، سلام أعزل، وسلام ينزع السلاح؛ سلام متواضع وثابت. إنه سلام من عند الله، الله الذي يحبنا جميعًا بدون شروط. لا تزال آذاننا تحفظ ذلك الصوت الضعيف ولكن الشجاع دومًا، صوت البابا فرنسيس وهو يبارك روما! ذلك البابا الذي بارك روما، كان يبارك العالم أجمع، صباح يوم القيامة. اسمحوا لي أن أُتابع تلك البركة عينها: الله يحبنا، الله يحبكم جميعًا، والشر لن ينتصر! نحن جميعًا بين يدي الله. فلنسر معًا، بدون خوف، يدًا بيد مع الله ومع بعضنا البعض. نحن تلاميذ المسيح، والمسيح يسبقنا في الطريق. إنَّ العالم يحتاج إلى نوره، والبشرية تحتاج إليه كجسر يوصلها إلى الله ومحبّته. ساعدونا أنتم أيضًا، وساعدوا بعضكم البعض على بناء الجسور، بالحوار، باللقاء، بالوحدة، لكي نكون شعبًا واحدًا يعيش في سلام دائم. شكرًا للبابا فرنسيس!

وأود أن أشكر أيضًا جميع إخوتي الكرادلة الذين اختاروني لأكون خليفة للقديس بطرس، وأسير معكم ككنيسة واحدة تسعى دومًا إلى السلام والعدل، وتعمل كرجال ونساء أمناء ليسوع المسيح، بدون خوف، في إعلان الإنجيل، وفي أن نكون مرسلين. أنا ابن للقديس أوغسطينوس، راهب أوغسطيني، الذي قال: معكم أنا مسيحي، ومن أجلكم أنا أسقف. بهذا المعنى يمكننا جميعًا أن نسير معًا نحو الوطن الذي أعدّه الله لنا.
إلى كنيسة روما أوجّه تحية خاصّة! يجب أن نبحث معًا كيف نكون كنيسة مرسلة، كنيسة تبني الجسور، كنيسة تسعى إلى الحوار، كنيسة منفتحة دائمًا على الاستقبال، كهذه الساحة التي تفتح ذراعيها للجميع. لكل من يحتاج إلى محبّتنا، إلى حضورنا، إلى الحوار وإلى المحبة. وإن سمحتم لي بكلمة، أود أن أوجه تحية إلى الجميع، وخاصة إلى أبرشيتي العزيزة، شيكلايو، في البيرو، حيث رافق شعب أمين أسقفه، وشارك إيمانه، وقدم الكثير والكثير ليستمر كنيسة أمينة للمسيح. إلى جميعكم، أيها الإخوة والأخوات في روما، وفي إيطاليا، وفي جميع أنحاء العالم، نريد أن نكون كنيسة سينودسية، كنيسة تسير معًا، كنيسة تبحث دائمًا عن السلام، وتسعى دومًا إلى المحبة، وتحرص أن تكون قريبة خاصةً من المتألمين.

اليوم هو يوم التوسّل إلى العذراء مريم سيّدة بومباي. وأمّنا مريم ترغب دائمًا في السير معنا، وأن تكون قريبة منا، وتساعدنا بشفاعتها ومحبّتها. أود أن أرفع الصلاة معكم. لنصلِّ معًا من أجل هذه الرسالة الجديدة، ومن أجل الكنيسة جمعاء، ومن أجل السلام في العالم، ولنطلب هذه النعمة الخاصة من مريم، أمّنا. 

(البابا ليو الرابع عشر، الكلمة الأولى عقب انتخابه بابا روما)

البابا ليو الرابع عشر أثناء خدمته في بيرو

في حين امتلأ عالمنا اليوم بالعنف والصراعات التي تفاعل معها سلفه الراحل البابا فرنسيس، خاصة الحرب في غزة والحرب على أوكرانيا، إلا أن كلمات البابا ليو الرابع عشر كانت روحية تتحدث عن سلام المسيح للعالم أجمع، الذي منحه للكنيسة وتلاميذه عقب قيامته من بين الأموات طوال فترة الأربعين يومًا التالية للقيامة، ونحن نعيشها هذه الأيام.

ربما لا يريد أن يبدأ حبريته بالصدام أو التعاطي مع البؤر الملتهبة في العالم، إلا أنه ذكر شعب إيبارشية شيكلايو في بيرو التي كان أسقفًا عليها ليعلن أن المهمشين والفقراء هم في دائرة اهتمامه، إضافة لترتيب البيت الكنسي وتوحيده، بعدما حدثت معارضات شديدة للبابا فرنسيس في بعض مواقفه التي كانت منفتحة على الآخر المختلف دينيًا وفكريًا، واحتواء الأفراد من مجتمع الميم [4]، خاصة بعد وثيقة [5] التي أدت إلى لغطًا كبيرًا، ولم يجبلها مجلس الأساقفة الكاثوليك في إفريقيا، وطلبوا من الفاتيكان عدم إلزامهم بها في إيبارشيتهم، لاختلاف المجتمعات في إفريقيا ثقافيًا، ورغم أن الوثيقة لم تقل بقبول الكنيسة لزواج الأشخاص مثليي الجنس، أو الزواج خارج الكنيسة، إلا أن هذا ما تم تصديره عنها في وسائل الإعلام المختلفة على مستوى العالم، بينما الوثيقة تناقش استجابة الأساقفة والكهنة لمنح البركة لطالبيها، مهما كان نظرة الكنيسة لهم ولتصرفاتهم التي لا تعترف بها.

وسط بين نقيضين

يبدو أن البابا الجديد سيُمثّل مساحةً وسطًا بين چوزيف راتسينجر [البابا بندكتوس السادس عشر]، اللاهوتي الألماني المحافظ جدًا، وخورخي ماريو بيرجوليو [البابا فرنسيس]، الراهب اليسوعي الأرجنتيني المنفتح على العالم أجمع. فهو يبدو لاهوتيًا تقليديًا لانتمائه لرهبنة القديس أوغسطينوس، ويهتم بالفقراء والمهمشين، ولكنه سيتخذ مواقفَ أكثر محافظةً من سلفه فرنسيس فيما يخصّ المثلية. بينما جميع باباوات كنيسة روما لهم نفس الموقف المحافظ من تحديد النسل ووسائل منع الحمل والإجهاض، كذلك، كان الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست من مؤيدي في أمريكا، لأنه يدافع عن قيم المحافظين الكاثوليك الذين يُشكّلون قطاعًا واسعًا من جمهوره. ورغم ذلك، فله مواقف مناوئة للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب فيما يخصّ المهاجرين.

العدالة والعمل واسم لاون

وكما أوضحت أن البعد الاجتماعي سينال جانب كبير من اهتمام البابا الجديد، فقد أكد ذلك بنفسه خلال استقبال أعضاء مجمع الكرادلة صباح السبت 10 مايو الجاري، في الفاتيكان، وسبب اختياره لاسم لاون الرابع عشر، هو إشارة إلى البابا لاون الثالث العشر الذي تناول في الرسالة العامة “Rerum novarum”، تناول المسألة الاجتماعية في خضم الثورة الصناعية الأولى؛ وأنه على الكنيسة اليوم أن تجيب على ثورة صناعية جديدة وتطورات الذكاء الاصطناعي، بما تطرحه من تحديات جديدة في سبيل الدفاع عن كرامة الإنسان، وعن العدالة والعمل. وقال: [6]

وفي هذا الإطار، أرغب اليوم أن نُجدّد معًا التزامنا التام في المسيرة التي تسلكها منذ عقود، مستنيرة بنور . لقد أعاد البابا فرنسيس تسليط الضوء على معانيه وآنيّته في الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، الذي أود أن أُسلِّط الضوء على بعض المرتكزات الأساسية: العودة إلى أولوية المسيح في البشارة؛ الارتداد الإرسالي للجماعة المسيحية بأسرها؛ النمو في روح المجمعية والسينودسيّة، لا سيما من خلال أشكالها الأصيلة والشاملة مثل التقوى الشعبية؛ العناية المحبة بالأخيرين والمهمشين؛ والحوار الشجاع المفعم بالثقة مع العالم المعاصر في تنوّع أبعاده وحقائقه. إنها مبادئ إنجيلية ألهمت وحرّكت على الدوام حياة وعمل عائلة الله، وقيم يتجلى من خلالها وجه الآب الرحيم، الذي أعلنه لنا الابن المتجسد، الرجاء الأخير لمن يبحث بصدق عن الحقيقة والعدل والسلام والأخوّة.

وإذ أشعر بأنني مدعوٌّ للسير بهذا النهج، اخترت أن أحمل اسم لاون الرابع عشر. هناك عدة أسباب، ولكن السبب الرئيس هو أنَّ البابا لاون الثالث عشر، من خلال الرسالة العامة التاريخية Rerum novarum، قد تناول المسألة الاجتماعية في خضم الثورة الصناعية الأولى؛ أما اليوم، فتضع الكنيسة في متناول الجميع تراثها في العقيدة الاجتماعية للكنيسة لكي تجيب على ثورة صناعية جديدة وتطورات الذكاء الاصطناعي، بما تطرحه من تحديات جديدة في سبيل الدفاع عن كرامة الإنسان، وعن العدالة والعمل.

(البابا ليو الرابع عشر)

هذه مجرد انطباعات أولية عن البابا ليون الرابع عشر؛ فمع الوقت والتحديات التي نعيشها هي ما ستكشف لنا فهمًا أعمق لأسلوبه ومواقفه. لا تزال بابويته، حتى الآن، كتابًا مفتوحًا، وأسلوبه في القيادة وقراراته الرئيسية لم تُحدد بعد بشكل كامل.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. لاون: يُكتب أيضًا ليو، وليون [🡁]
  2. ، روبرت فرنسيس بريفوست، سيرة حياة البابا الجديد، بتاريخ 8 مايو 2025 [🡁]
  3. فاتيكان نيوز، البابا الجديد ليو الرابع عشر: السلام للعالم، سلام أعزل ومتواضع، بتاريخ 8 مايو 2025 [🡁]
  4. مجتمع الميم: تعبير أعم يشمل الأشخاص مثليو الجنس، واللاجنسيين، ورهبان الجنس، والمتحولين جنسيًا، وأيّة تصنيفات جنسية غير الغيرية. [🡁]
  5. ، ترجمة انعتاق المتوسلون Fiducia Supplicans[🡁]
  6. فاتيكان نيوز، البابا: لقد اخترت اسم لاوُن الرابع العشر لكي أجيب على تحديات العدالة والعمل، بتاريخ 10 مايو 2025 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- ، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎