الباحثة كانديز لوكاسيك (Candace Lukasik) هي صديقة قديمة، تعمل الأن كأستاذة مساعدة في أنثروبولوچيا الدين بجامعة ولاية ميسيسيبي الأمريكية. وهي حاصلة على زمالة دراسات الشرق الأوسط من جامعة برانديز. تستكشف أبحاثها الدين والسياسات العابرة للحدود الوطنية، متعاملةً مع ملفات العنف والهجرة والهوية والانتماء العرقي في الشرق الأوسط، وتحديدًا في مصر والعراق وجالياتهما في الولايات المتحدة. حصلت سابقًا على زمالة الرابطة الأمريكية للجامعات النسائية، وكانت عضوةً في هيئة تدريس جامعة بافالو، وباحثةً في مركز چون سي. دانفورث للدين والسياسة بجامعة واشنطن في سانت لويس. كما حصلت على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوچيا الاجتماعية والثقافية من جامعة كاليفورنيا، بيركلي.
تعرفت على كانديس في مصر وقت ثورة يناير 2011. حينئذٍ، كانت طالبة جامعية أمريكية مهتمة بمستقبل الأقليات بعد يناير، ومدى قدرتهم على المشاركة السياسية. والحق يُقال، أنها كانت ناشطة كالماكينة لا كالبشر، لا تكف عن البحث والتنقيب والهوس بأدق التفاصيل دون ملل. بالإضافة إلى قدرة فوق المعتادة على تحويل “سرديات المهاجرين” إلى تنظير استقرائي بحثي. لها ورقة بحثية شهيرة ومهمة عما أسمته: اقتصاد الدَّم
، تشرح فيها العلاقة الخاصة لفئة الأقباط المهاجرين إلى الولايات المتحدة ذات الأغلبية البروتستانتية، وكيف أن المسيحية (والمسيح نفسه في مسألة العشاء الأخير والتناول) تنشئ روابط اجتماعية، رابطة “بالدم” على المستوى الشعبي، وكيف تستخدم الولايات المتحدة ذلك اقتصاديًا، وكيف أن تحفيز فكرة الاضطهاد عند الأقباط هو جزء من الدائرة الاقتصادية لـ”اقتصاد الدَّم”.
أنا أعلم أن الأمر قد يبدو معقدًا، لكن هكذا طبيعة الأوراق البحثية في الأنثروبولوچيا. بل إن محاولة الترجمة للعربية هي أمر محفوف بالتحديات لأن النص البحثي يمتلئ بالمصطلحات وليس الشعر والأدب، ولا يخاطب القارئ المثقف وحسب بل يخاطب الأكاديميين المتخصصين وحدهم كعادة المنشور في المجلات العلمية. لذلك، في الجزء القادم إن لم تفهم بعض الفقرات فلا تنزعج وحاول قراءتها ببطء أكثر، لكن بالنهاية لو فقدت بعض السياق فلا مشكلة، كما أخذت وعدًا من السيدة كانديز أن تكتب معنا على الشبكة في الفترة القادمة، هي تجيد العربية لذلك لن تكون اللغة الاصطلاحية عائقًا مستقبلًا.
على العكس من أقباط المهجر الذين يستخدمون المناخ الأمريكي للضغط على النظام المصري بهدف تحسين أوضاع أقباط الداخل. تعود كانديز للولايات المتحدة مستخدمة قراءات الواقع المصري للضغط على النظام الأمريكي من داخله. أدواتها هي البحث العلمي حيث الأخطاء والانحيازات لا يتم التهاون معها. لذلك، ليس غريبًا أن يكون اسم كتابها الذي صدر في مارس الماضي:
MARTYRS and MIGRANTS
Coptic Christians and the Persecution Politics of US Empire
شهداء ومهاجرون
المسيحيون الأقباط وسياسات الاضطهاد للإمبراطورية الأمريكية
في الوقت الراهن، تنسّق كانديز أن يكون كتابها مُتاحًا في مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة بغضون شهر مايو المقبل. في الوقت الحالي فهو مُتاح للشراء أونلاين من موقع جامعة نيويورك. ولأن لدّي نسخة من الكتاب، فسأقدم في هذا المقال عرضًا موجزًا أشبه بخارطة لأهم فصوله ومحتوياته بإيجاز.
يتألف الكتاب من جزأين، مقسمين بين شخصية الشهيد
وشخصية المهاجر
، حيث يتناول كل فصل مشاهد في بهجورة (قنا، بصعيد مصر) ومنطقة نيويورك-نيوجيرسي لإظهار التدفقات المتدرجة في الهجرة.
مقاييس الدَّم
يتناول الجزء الأول؛ مقاييس الدَّم
، تحديدًا توتر الشهيد
في سياق الانتماء السياسي في الشتات، والذاكرة، وطرق الهجرة، والترجمات القانونية لكل هذه الصراعات الداخلية.
الاضطهاد والسلطة
يحدد الفصل الأول؛ الاضطهاد والسلطة
، مسار دراسة التقاطعات بين سياسات الاضطهاد الأمريكية المعاصرة وسرديات الاستشهاد القبطي. ويركز على كيفية تغذية سياسات الاضطهاد الأمريكية في أواخر القرن العشرين للنشاط والدعوة في الشتات بين الأقباط في الولايات المتحدة، وتشكيل الهوية القبطية العابرة للحدود الوطنية في هذه العملية.
يتتبع الفصل بإيجاز سياسات الأقباط في الشتات قبل نهاية الحرب الباردة. حيث بدأ المهاجرون، خلال سبعينيات القرن الماضي، بتنظيم أنفسهم لمواجهة العنف الطائفي المتزايد في مصر. وخلال ثمانينيات القرن الماضي، نشأت روابط جديدة بين نشطاء الشتات والسياسيين الأمريكيين المحافظين والزعماء الدينيين وصانعي السياسات، انطلاقًا من اهتمام مشترك باضطهاد المسيحيين في ظل الحكم الإسلامي.
يقدم هذا الفصل تحليلًا تاريخيًا للتقارب بين صعود اليمين المسيحي وظهور الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ويُظهر كيف أثر هذا التطور على طريقة تشكيل مجتمعات الأقلية المسيحية المهاجرة من الشرق، مثل الأقباط، لرواياتهم المجتمعية ونشاطهم السياسي. وفي نهاية المطاف، يوفر هذا التحليل التاريخي السياق لمشاركة أكثر معاصرة في السياسات العابرة للحدود الوطنية للهوية القبطية والقرابة المجتمعية في عصر جديد من الهجرة من مصر إلى الولايات المتحدة.
الذاكرة الطائفية وقوى الهجرة
الفصل الثاني؛ الذاكرة الطائفية وقوى الهجرة
، يدرس الظروف المعاصرة للهجرة القبطية من مصر إلى الولايات المتحدة، مع التركيز بشكل أساسي على تأشيرة التنوع، أو ما يُعرف بـ”يانصيب البطاقة الخضراء”.
جادلت وسائل الإعلام الدولية، والسياسيون وصانعو السياسات الغربيون، وحتى أقباط الشتات أنفسهم، بأن المسيحيين في المنطقة يواجهون خطر الانقراض، وأنهم يفرون لإنقاذ حياتهم من قوى التطرف الديني المتصاعد والعنف الطائفي.
يركز هذا الفصل على سياسات الذاكرة الجماعية لدى الأقباط في جنوب مصر الريفي، ويدرس البنية الإثنوغرافية المثيرة للجدل للهجرة العابرة للحدود الوطنية لأقلية مسيحية في الشرق الأوسط. وبدلًا من الاستنتاج بأن هذه الهجرة إما قسرية أو طوعية، يحلل الفصل كيف أن ضرورة البت في صحة رواية الهروب هذه، تُشكل حياة وسياسات العديد من أفراد الإمبراطورية الأمريكية.
الاختلاف الديني وقانون اللجوء
الفصل الثالث؛ الاختلاف الديني وقانون اللجوء
، يدرس عمليات طلب اللجوء بين المهاجرين الأقباط إلى الولايات المتحدة بعد الثورة المصرية عام 2011، ويتناول تحديدًا مفارقات الاضطهاد من منظور نظام اللجوء الأمريكي.
وصفت وسائل الإعلام الغربية هجرة الأقباط من مصر بعد الثورة بأنها “نزوح جماعي”، وركزت على معاناة الأقباط على أيدي الجماعات الإسلامية والحكومة المصرية وعامة المسلمين. أثّرت هذه الروايات الإعلامية والتشكيلات الخطابية -التي تتناول الضحية المسيحية والجاني المسلم- على الفصل في قضايا لجوء الأقباط في الولايات المتحدة.
يتناول الفصل فكرة “الشرعية المنطقية”، التي ترصد كيف غيّرت التحولات في الترشيد القانوني والبيروقراطية كيفية جعل قضايا الأقباط مقنعة، ويتتبع إثنوغرافيًا طالبي اللجوء الأقباط في أثناء تقديمهم طلباتهم، وإجراء المقابلات معهم، وجلساتهم في قاعات المحكمة في انتظار القرار، وتوقعاتهم بالعودة إلى مصر.
مجتمعات الدَّم
في الجزء الثاني؛ مجتمعات الدَّم
، يتجه الكتاب نحو دراسة كيفية تعامل المسيحيين الأقباط مع هذه الهياكل الأوسع التي تشكل الانتماء السياسي والحركات الطائفية، وذلك من خلال عمليات التمييز العنصري، ونقل الأخلاق حول قضايا النوع الاجتماعي والجنسانية، وقلب سرديات الاستشهاد في ظلّ الهجرة القبطية.
الأجسام العاطفية والممارسات الأمنية
يوضح الفصل الرابع؛ الأجسام العاطفية والممارسة الأمنية
، كيف تعامل الأقباط مع الحرب على الإرهاب وأمننة
[1] حياة المسلمين في الشرق الأوسط وأمريكا.
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، اضطر العديد من مسيحيي الشرق الأوسط إلى إعادة التفاوض على هويتهم الطائفية داخل المجتمع الأمريكي، وإعادة تشكيل تعريفهم ومن يرتبطون بهم. تعامل المسيحيون الأقباط في مصر مع وضعهم كأقلية مسيحية في دولة ذات أغلبية مسلمة، حيث تعرضوا لهجمات عنيفة، وتفجيرات للمؤسسات الدينية، وأشكال يومية من التمييز.
وكما يوضح الفصل الثاني بالتفصيل، تشكل هذه التجارب، بشكل متفاوت، أسباب هجرة الأقباط إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، يبني المخيال السياسي للأقباط المغتربين في الولايات المتحدة على هذه التجارب وتكوينات الذاكرة الجماعية في مصر، وينقلها إلى سياق جديد من العنصرية والتوسع الاستعماري، في عصر الحرب على الإرهاب. بعبارة أخرى، يُعاد تصور الذاكرة الجماعية القبطية والصدمة الثقافية التي عانوا منها كأقلية مسيحية في مصر، في ضوء خطاب الإرهاب الأمريكي والخطابات الجديدة حول تهديد الإسلام المتطرف. وتعود تجارب المهاجرين هذه، المتعلقة بالأمننة وترجمات التهديد الإسلامي، إلى مصر بطرق فريدة.
يوضح هذا الفصل كيف أنه في مناطق نيويورك ونيوچيرسي، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واجه المسيحيون الأقباط منظور التهديدات الأمنية من خلال التفاوض على وضعيتهم العنصرية وصياغة قيمهم المجتمعية بما يتماشى مع مصالح الأمن القومي.
الترجمات الشتاتية وصراع الثقافات
يُظهر الفصل الخامس؛ الترجمات الشتاتية وحروب الثقافات العالمية
، كيف أعاد المسيحيون الأقباط العابرون للحدود الوطنية رسم سردياتهم الأصلية عن الاضطهاد والاستشهاد، ليس فقط كشكل من أشكال الوضوح السياسي الأمريكي، بل أيضًا كجزء من النضال من أجل الحفاظ على “القيم التقليدية” المُحافظة.
يربط هذا التداخل بين الأهمية اللاهوتية للاضطهاد العالمي للمسيحيين (الذي نوقش في الفصل الأول) وبين حرب محلية على المسيحيين
. في الولايات المتحدة، سمح ذلك للمسيحيين الأمريكيين ذوي النفوذ بالقول: إنه بينما لم تُسفك دماء المسيحيين في الشوارع الأمريكية بعد، كما هو الحال في أماكن أخرى من العالم، إلا أن هناك قوى معادية للمسيحية تعمل على تنفيذ مثل هذه الخطة.
في سياق الشتات، يُثير نسجُ معاناة الأقليات في مصر (التي شملت التمييز والعنف والموت) ومعاناة المسيحيين من الأذى المعنوي في الولايات المتحدة، حساسيات الأقباط وتاريخهم في الاضطهاد والاستشهاد، ويُعيد صياغتها في سياق آخر. بنسج وجهات نظر الأقباط الأمريكيين المحافظين حول الحياة الدينية والثقافية في الولايات المتحدة مع أشكال جديدة من التنظيم المحلي، يكشف الفصل عن شكلٍ مميز من سياسات الاضطهاد بمفتاح الشتات.
الأجور والشهادة
تُعيد خاتمة الأجور والشهادة
التأكيد على خط الطبقية في ثنائية الشهيد والمهاجر عبر الدَّم. وتُركز بإيجاز على موقع بديل في الجنوب الأمريكي، ناشفيل، تينيسي، حيث شكّلت الحركات الشعبية القبطية تحالفات سياسية وشبكات للمهاجرين مع غيرهم من الملونين والمجتمعات المهمّشة.
تهدف هذه المنظمات إلى تحدي رواية اضطهاد المسيحيين، والتركيز بدلًا من ذلك على معاناة المهاجرين الأقباط من الطبقة العاملة من صعيد مصر، الذين يُعاملون على أساس عرقي ويُعزلون في أفقر أحياء ناشفيل.
بشكل عام، تطرح الخاتمة سرديات غير تقليدية، تُعارض الأشكال السائدة للحياة القبطية العابرة للحدود الوطنية كجزء من هجوم عالمي على المسيحية. فهي تُعنى بـ”المنبوذين” الأقباط داخل المجتمع العابر للحدود الوطنية، وكذلك بالمنبوذين التمثيليين داخل اقتصاد الدَّم الإمبراطوري.