لسنوات طويلة، يتصرف الأقباط على أنهم المثال الحقيقي للمحبة والوداعة والتسامح، عملًا بما علمه لنا المسيح خلال 33 عامًا هي سنوات عمره على الأرض، ومن خلال إنجيلٍ مكتوبٍ، يعد دستور المسيحية الأسمى على الإطلاق، ويتباهى المفكّرون المسيحيون بأنه مهما كانت درجة راديكاليتهم ورجعيتهم وجمودهم، إلا أنهم يحبون أعدائهم، ويباركون لاعنيهم، ويصلون من أجل الذين يسيئون إليهم ويطردنهم، فجاءت حلقة "مختلف عليه" مع الأستاذ "إبراهيم عيسى" على فضائية "الحرة" كطلقة كاشفة للمسيحية الواقعية دون رتوش تجميلية، وهادمة لأسطورة المسيحي الوديع المتسامح.
وبغض النظر عن أن ضيوف الحلقة لم يتكلموا إلا بشكل أكاديمي، فلم يرددوا إلا حقائق دامغة وتاريخية، ومعظمها مكتوب نصًا في الكتب المسيحية التي تباع في المكتبات داخل الكنائس، وبغض النظر أن العقيدة القبطية الأرثوذكسية لا تعتقد في “عصمة البابا” من الخطأ والخطية، (في الحقيقة فالمسيحية واليهودية ﻻ تعتقدان حتى في عصمة اﻷنبياء حَسَبَ ذكر خطاياهم في الكتاب المقدس)، إلا أن رد الفعل العنيف والخارج عن حدود الأدب واللياقة، الذي تجاوز حد الخوض في أعراض المتحدثين ووصفهم بألفاظٍ نابيةٍ، واتهامهم بتهم الخيانة والعمالة وتلقي الأموال اتساقًا مع نظريات المؤامرة التي يؤمنون بها، حتى وصل الأمر إلى إرسال رسائل تهديد للمشاركين في الحلقة تتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور عقابًا لهم على انتقاد “البطريرك السابق”، إلا أن الحلقة كانت بمنزلة سقوط ورقة التوت الأخيرة التي كشفت عوراتهم الفكرية وعرت عقولهم، وهدمت أسطورة التسامح المسيحي.
“لو لم يفعل الأنبا شنودة في حياته سوى أنه أنتج هذا الجيل من المتعصبين غليظي القلوب، أفظاظ الألسن، متجمدي العقل والفهم، سود الأرواح، لكان ذلك كافيًا لانتقاده حتى تقوم الساعة.”
رد فعل قطاع واسع من الأقباط على الحلقة، كان بمقام جرس إنذار لوقف خطاب الكراهيَة الآخذ في الانفجار من أتباع ما يمكن تسميتهم “التيار الشنودي”، وهم مجموعات مختلفة داخل الكنيسة من بعض الأساقفة والكهنة والشباب وعموم الأقباط متوقفين زمنيًا عند حدود أن البابا شنودة هو بطريرك الكنيسة ولن يأتي بعده، ويرفضون أي محاولة انتقاد لعصره أو لإدارته للكنيسة، والذين اختلط عليهم الأمر ما بين عبادة الله الواحد، وما بين عبادة الأنبا شنودة والاعتراف به كأقنوم رابع مكمل لقبطيتهم، وللحديث عنهم سنفرد لها مقالًا آخر في وقت لاحق.
ويبدو أن عقول غالبية الأقباط بِنَى العنكبوت عليها خيوطه واستقر وأنجب قبيلة تخلفه وتخلد أسمه، لا تزل عاجزةٍ على استيعاب فكرة تقبل الانتقاد أو التقييم السلبي، أو الرد على الوقائع بالوقائع المعارضة وليس بالشعارات الغاضبة، لقد بات الرد على الفكرة بفكرة حلما بعيد المنال، ومستباح كل لحظة البحث في نوايا ونفوس المنتقدين.
عقولهم التي يبست وصارت جاهزة كي توضع في “فاترينة” زجاجية ضمن مقتنيات المتحف القبطي، لا تزل ترفض بكل عناد وطفولية فكرة مناقشة القضايا الكنيسة على الملأ، بحجة أنه “عيب أن ننشر غسيلنا المتسخ” على الملأ، عقولهم تربت على هوس كتب المعجزات غير المُراجعة، التي تعج بها رفوف مكتبات الكنائس، استعصى عليهم فهم أن الأكثر إحراجًا من مناقشة المشاكل على الملأ، هو بقاء تلك المشاكل لعقود دون محاولة إصلاحها، المساكين لا يزالوا عالقين في حِقْبَة التسعينيات البائسة، حيث لا متنفس للإعلام غير القناتين الأولى والثانية، وكان ينتهي إرسال كل منهما في الحادية عشر مساءً، والحداثيون الذين وصلوا بسلام إلى عصر الإنترنت، لم يطالعوا أعداد مجلات “مدارس الأحد” التي كان يكتب فيها نظير جيد (البابا شنودة) بكل عنف مطالبًا بالإصلاح، منتقدًا البابا يوساب بأكثر الكلمات قسوة وحدةٍ، وأخفاها قداسته عمدًا فور وصوله لسُدة الكرسي المرقسي.
إن عقول غالبية الأقباط لا تزل قابعة في الحِقْبَة الناصرية بامتياز، عقول ناصرية لأبعد الحدود، لا تعي معنى انتقاد المسئولين، ولا تدرك أن للرعية حق في انتقاد الراعي ومسألته ومحاسبته، حق أصيل لا يختلف عليه أحدًا، وأن الراعي مهما كانت قداسته فهو في النهاية بشر يخطئ ويصيب، وقد يحيد عن الطريق القويم إذا لم يجد من يقومه ويراقب عليه، ولا داعي لذكر أمثلةٍ من أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذين أغراهم حب المال، وحادوا عن الطريق القويم إذ لم يجدوا من يرفع صوته مناديًا بكلمة اعتراض.
إننا أمام غالبية من العقول القبطية المتسلفة لأبعد الحدود، راديكالية، أصولية، غير قابلة للتجديد والتطوير، تؤمن بالعنف كوسيلة لكسب معاركها، ولحسن الحظ أنهم لا يزالوا جبناء عن حمل السلاح حتى الآن، وإلا كانوا أطلقوا رَصاص كراهيتهم صوب العقول التي تنتقدهم وتحاول الإصلاح بكل الطرق وشتى الوسائل.
عزيزي القبطي المتسلف، قطار الحداثة والتنوير سوف يدهسك أجلًا أم عاجلًا، أما حملاتكم المسعورة فلن تزيدنا إلا كل عزم وإصرار على استكمال الطريق.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤