ديفيد إنستون بروير، هو قسٌّ معمدانيٌّ متقاعد، وباحثٌ في جامعة كامبريدج. ألّف العديد من الكتب، معظمها عن الخلفية اليهودية للعهد الجديد، وهو عضوٌ في لجنة ترجمة الكتاب المقدس (NIV). وهو أيضًا كاتب دائم في مجلة بريميير كريستيانيتي
، وفي أوقات فراغه، يستمتع بكتابة برمجيات الحاسب الآلي.
ينخرط بروير الآن في مشروع لتحديد وشرح التقاليد الحاخامية قبل عام ٧٠ ميلادية. من كتبه السابقة: الأساليب والافتراضات في التفسير اليهودي قبل عام 70 ميلادي
(١٩٩٢) [1]، الطلاق وإعادة الزواج في الكتاب المقدس
(٢٠٠٢) [2]، الطلاق وإعادة الزواج في الكنيسة
(٢٠٠٣) [3]، تقاليد الحاخامات من عصر العهد الجديد
[4].
يتحدث هذا المقال عن كتاب الطلاق وإعادة الزواج في الكتاب المقدس
، لأنه كتاب مهم وجميل عن الطلاق في تعاليم المسيح، وعلاقته باليهودية الفريسية. والفريسية هنا ليست انتقاصًا أو نقدًا لفئة من اليهود. بل الفريسية وصف لفقهاء العقيدة اليهودية، وكانت لها مدارس [مذاهب] مشهورة وسائدة في المجتمع اليهودي وقت المسيح [5].
في زمن المسيح، كانت هناك مدرستان في الفريسية، بينهما صراع لاهوتي، وهما مدرسة هَليل
(تُكتب أحيانا هاليل
) ومدرسة شماي
(تُكتب أحيانا شمعي
). المسيح كان يتبع خط مدرسة هليل باستمرار، وكان يدافع عن تعاليمها المتسامحة والليبرالية المنفتحة، مقارنة بمدرسة شماي التي كانت أصولية مُحافظة وحرفية جدًا.
على سبيل المثال، عندما قال المسيح: ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون
[6]، كان يعلق على جدل بين مدرستي هليل وشماي حول قضية خلاص غير اليهود. رفض شماي تمامًا إمكانية خلاص الأمم، لكن هَليل قال إنهم إذا اتبعوا شريعة نوح (قوانين نوح السبعة) فسيكون لهم خلاص مثل اليهود. هذا يفسر السياق الذي قال فيه المسيح ذلك النص الكتابي.
كثيرٌ منا لا يعرف أن المسيح كان يقتبس من هليل، مثلًا مقولة هليل: ما لا تحبه لنفسك، لا تفعله بغيرك، تلك هي التوراة كلها والباقي شرحًا لذلك
[7]، التي أصبحت: فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء
[8].
الجدل حول الطلاق
أيضًا، كان هناك جدل مهم بين مدرستي هليل وشماي حول الطلاق.
كلتا المدرستين لم يكن لديهما مشكلة في الطلاق أو التطليق كأفكار عامة [9]، لأنها موجودة في الشريعة اليهودية. اتَّفقت المدرستان، بناءً على خروج ٢١، على التطليق، أي أنَّ من حق الزوجة الحصول على الطلاق إذا أساء الزوج معاملتها وأهمل توفير حقوقها المعيشية: إن اتخذ لنفسه أخرى، لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها. وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجانا بلا ثمن
[10].
ستجد أن سياق النص في بدايته يتضمن أن هذه أحكامًا تشريعية خاصة بالعبيد والإماء من نفس القومية (العبرانيين). لكن المدارس اليهودية رأت أن حقوق الزوجة بالتأكيد لن تكون أقل من حقوق العبدة أو الأمة. بمعنى أنه من حقها الحصول على حريتها إذا لم تحصل على أبسط حقوقها. واتخذت المدرستان هذا النص كتشريع للتطليق.
لكن وعلى اتفاقهم على التطليق، اختلفوا حول الطلاق، الذي هو محور تفسير تثنية 24، وتحديدًا النص الذي يقول:
إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته،[11](سفر التثنية ٢٤: ١)
هنا، نجد أن النص الخاص بطلاق الذكر كان نصًا مفتوحًا، ليس به أسباب سوى عدم استحسان الزوج لم تجد نعمة في عينه
، وعلى هذا يمكن للرجل العبراني أن يطلق امرأته بمحض إرادته لعيب معين يجده فيها (طلاق أحادي الرأي، ودون مراجعة).
المدرستان اختلفتا على تفسير مسوغات الطلاق، كما يلي:
قالت مدرسة هليل التحررية المنفتحة: بما أن النص لم يحدد عيبًا معينًا، إذن فالأمر متروك لتقدير الرجل وحده. بالتالي سمحت للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب، بإرادته المنفردة (لاحظ هنا أن تشريع مدرسة هليل يقول يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب
). لدرجة أن هليل قال: لو أحرقت الزوجة الطعام، يحق لزوجها أن يطلقها
. بالطبع رأي كهذا كان مدمرًا للنساء في زمن لم يكن فيه مهنة لهن ليعشن بدون زوج، ولم يكن أمامهن سوى أن يكن بائعات هوى [زانيات]، هذا بالإضافة إلى إهانته لمنظومة الزواج أصلًا. ووصل الأمر لقول أحد المشرعين في المدرسة الهليلية: إذا وجد الزوج سيدة أجمل من زوجته وأراد أن يطلق زوجته من أجل الزواج بأخرى، فهو حر
، أي أن الأمر قد تحول من تنظيم لسلوك البشر مُقننة بوجود “عيب”، إلى حالة مزاجية للذكر غير مقننة أو منضبطة بنص يحكم أهواء الذكور.
مدرسة شماي المحافظة الأصولية رفضت هذا التفسير المفتوح، وقالت إن العيب الذي يسمح للرجل أن يُطلق امرأته لابد أن يكون عيبًا وظيفيًا وحيويًا في المرأة، مثل الزنى أو العقم [12]، ووصل الأمر في زمن المسيح للقول بأن العيب الوحيد الذي يسمح للرجل أن يُطلق امرأته دون إرادتها هو علة الزنى. هنا، الزوج مُطالب بالاستمرار في الحياة مع امرأته رغمًا عن إرادته لطالما المرأة تلد ولا تزني.
المسيح يفاضل بين مدرستين
عندما أراد الفريسيون اختبار مدى اطّلاع المسيح على الجدل الدائر بين المدارس الفريسية المختلفة، سألوه: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟
[13]. ومن فهمنا للسياق والجدل الدائر بين الفريسيين فالأمر هنا ليس مجرد اختبار لمدى الاطلاع على الأقوال الفقهية كما يبدو ظاهر النص، بل هو فخّ منصوب [14]. ويبدو أن الفريسيين عندما رأوا المسيح يستخدم تعبيرات عن هليل أنهم ظنوه تلميذ جديد هليلي المذهب، وأرادوا التصيد لأقواله من نقاط الضعف التي اشتهر بها المذهب الهليلي. فالسؤال: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟
هو سؤال عن شريعة هليل، شريعة الطلاق لأي سبب.
كانت إجابة المسيح هي تكرار لما قاله شماي، بالاقتباس منه، كما إقتبس من كلام هليل في مواقف أخرى كما ذكرنا. بالتالي، اقتباس المسيح لشماي مهم أن نفهمه في سياقه؛ لأن شماي لم يحرم الطلاق بشكل مطلق. المسيح هنا كان يفاصل بين مدرستين إحداهما تطرفت وأعطت تصريحًا منفلتًا للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب، حتى لو كان تافها مثل حرق الطعام، أو مزاجًا هوائيًا من أجل الزواج بأخرى أجمل.
وبناءً عليه، كان المسيح يعلّق على تثنية ٢٤، الخاصة بالطلاق بالإرادة الحرة المنفردة [المنفلتة]، ولا يوجد أي دليل على رفضه لشريعة خروج ٢١، الخاصة بالتطليق، التي كان يعمل بها جميع اليهود في زمن المسيح.
بطبيعة الحال، في كتاب إنستون بروير، شرح وافٍ بكل التفاصيل المُقنعة أكثر من هذا المقال، لكن للأسف هو غير مترجم إلى العربية حتى الآن، ولا أظن أن المؤمنين في الكنائس التقليدية قد يترجمون لنا مثل هذه الكتب المُهمة.