دائمًا ما تساءلت لماذا لا تسود الأجواء الاحتفالية الفَرِحة كما هو الحال في . ربما السبب هو أن الناس يشعرون بالذنب وهم يتذكرون آلام ذلك البريء الذي تعذّب ومات بسببهم؟ أو ربما لأن أسبوع الآلام يستحضر عند البعض صور إله غاضب أصرّ على سفك دماء ابنه الوحيد استيفاءً لمتطلبات العدل. أو ربما لأن الصليب هو علامة ضعف وحماقة، حجر عثرة لكثيرين كما أوضح بولس في رسالته الأولى إلى كورنثوس.

لهذا، أجد أنه من المشجع أن نتذكر الغرض من الصليب، والذي هو إعلان الله عن محبته وقبوله للبشر… إعلان يأتي من الله بِكُليّته، وليس من أقنوم واحد فقط.

في سفر أيوب نقرأ هذا الإعلان الصادم عن الله، والذي يأتي على لسان أليهو صديق أيوب قائلًا:

إن أخطأتَ فماذا فعلت به؟ وإن كثرت معاصيك فماذا عملت له؟ أو ماذا يأخذ من يدك؟ إن كنت بارًا فماذا أعطيته؟ لرجل مثلك شرك، ولابن برك.

(سفر أيوب ٣٥: ٦-٨)

ليس الله إنسانًا فيتأثر بأخطائنا، ولا هو مستفيد من صلاحنا. إن تقديم الله كسيد غاضب لانتهاك كرامته والتعدي على فرائضه، مما يجعله يريد أن يعاقب هذا التعدي ويُجري العدل انتقامًا من الأشرار والشر، هو تقليل من شأن عظمة الله، وتصوير له كإله متعطش للدم يحتاج لمن يهدئ غضبه. إنها صورة تفصلنا عن الله (الآب) وتجعلنا نفضل الابتعاد عنه.

يقدم العهد القديم الذبائح في أصلها كعلامة عهد وعلاقة بين الله والناس. في العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم، نجد الله يمر من وسط الذبائح… إنه شريك في العهد، وليس مستقبل للذبيحة. عندما بدأ شعب إسرائيل في تقديم ذبائح من دون فهم معناها ومن دون الاهتمام بالعلاقة مع الله، رفض الله هذه الذبائح وكرهها.

يستنكر الله من يعتقدون أنه يمكن إرضاؤه بالذبائح فيقول: هل آكل لحم الثيران؟ أو أشرب دم التيوس؟ (مزمور ٥٠: ١٣). ويقول المرنم العارف لله: بذبيحة وتقدمة لم تُسر. أذني فتحت. محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. (مزمور ٤٠: ٦)، ويقول الله إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات (هوشع ٦: ٦).

لم يكن يسوع ذبيحة نلقيها لإله غاضب لنختبئ فيها من غضبه، بل كان يسوع أوضح إعلان عن اشتياق الله للتواصل معنا.

إن تاريخ الخلاص في الكتاب المقدس لا يُقدم لإله يحاول أن يجعلنا ندفع ثمن ما ارتكبناه من خطأ، أو حتى ثمن انخداع الجنس البشري بكذب الحية عن صلاح الله، لكنه يقدم بالأحرى قصة إله يسير مع البشر، مرة متقدمين ومرات متأخرين، في رحلة لمحاولة إصلاح ما انكسر، واسترداد علاقتنا به وفهمنا له كأب محب. ومثل أي أب محب، لا يتوقع الأب من أبنائه أن يصبحوا كاملين وفاهمين فجأة، بل بالأحرى يسير معهم بصبر وحب لبناء علاقة ناضجة وواعية.

الله أبونا! جاء يسوع حاملًا لنا هذا الخبر السار، وبإرادته وضع نفسه حتى الموت ليتمم رسالة المصالحة. لقد كان يسوع الذبيحة الكاملة وهو نفسه الكاهن الذي يقدم الذبيحة. إن مشيئة الله هي أن يخلص الجميع (١ تيموثاوس ٢: ٤)، لأنه هو من أحبنا ونحن بعد خطاة (رومية ٥: ٨)، قبلنا ونحن أموات في الذنوب والخطايا لأنه غني في الرحمة والرأفة وكثير الحب (أفسس ٢: ٤-٥).

لقد كان الصليب وعمل المصالحة إرادة وعمل الله المثلث الأقانيم، خطة الله لاسترداد أبنائه وتقديم كل الحب والعون لهم. لهذا السبب تفرحني كثيرًا الأيقونة الكاثوليكية التي تصور الثالوث على الصليب “Trinity Crucifix” حيث يجتمع الآب والابن والروح القدس، الله الواحد مثلث الأقانيم، على الصليب لتتميم الفداء.

عندما علم يسوع عن ملكوت الله، العهد الجديد الذي نعيش فيه، قدم مثلين يحملان نفس المعنى لتوضيح الملكوت؛ مثل اللؤلؤة الثمينة ومثل الكنز المخبئ في حقل. في كلا المثلين، نجد أن من وجدوا الكنوز الثمينة كانوا فرحين وممتنين للفرصة العظيمة التي جاءت لهم. كانوا على استعداد أن يعطوا كل ما عندهم لينالوا ما هو أهم وأثمن بكثير.

ومثل هؤلاء الناس في مثلي المسيح، نحن وجدنا كنزًا عظيمًا. كم هو مفرح أن نعرف أن خالقنا يحبنا كل هذا الحب، أننا مقبولون كما نحن وأن من يقود رحلة حياتنا هو أب يريد أن يكون معنا دائمًا وهو يرانا كاملين في المسيح يسوع.

كم عظيم هو الرجاء الذي لنا عندما نواجه صعاب وآلام فنعرف أن الله يشعر بنا، وأنه اختبر الرفض والألم. كم مشجع أن نعرف أننا قادرون أن نجد معنى للحياة، حتى في الأوقات الكثيرة التي تبدو فيها عبثية وبلا معنى، عندما نتذكر كيف اختار الله في قوته وحكمته أن يصالحنا بالصليب. الصليب، ذلك الرمز الذي يراه الكثيرون علامة على الحماقة والضعف، كان هو إعلان عن قوة الله وهو يهزم الموت بالموت، وحكمته وهو يختار أن يتواصل مع الإنسان الذي فشل في التواصل مع خالقه، معطيًا إيانا نحن المؤمنين أن نرى الحياة والقوة والانتصار بمنظور مختلف.

إننا مدعوون أن نشارك هذا الرجاء والفرح والحب مع عالم يحتاج لهذه الثلاثة بشدة. إننا مدعوون أن نظهر قوة الخلاص، لا كوسيلة عبور آمن للنعيم بعد الموت، أو كتذكرة لدخول السماء، بل كدعوة الله أن نعيش هنا والآن كأبناء وبنات لله، أحرار ومقدسين في عالم مستعبد وفاسد، نعيش قيم الملكوت ونحن على الأرض، فنطلب الرحمة والعدل والسلام، ونكون نورًا يواجه أفكارًا ومفاهيم فاسدة تستعبد الناس، أحيانًا حتى باسم الله.

وأخيرًا، الصليب يذكرنا أن فهم الله وطرقه تتخطى تصوراتنا وفكرنا. الله الذي اختار أن يصل هو للإنسان لا ينتظر منا أن ننقسم ونتصارع دفاعًا عنه، بل أن نأتي كلنا، كل من فهم قوة وحكمة الصليب، باتضاع وفرح لنشارك مع الآخرين عن مدى عمق واتساع وغنى نعمة الله وحكمته، وأن نسعى جميعًا لنمتلئ من هذه الحكمة التي تفوق كل معرفتنا وكل انقساماتنا الطائفية واللاهوتية وحتى الدينية. والإله الذي اختار ما يبدو ضعفًا وحماقة ليتمم المصالحة، يتوقع من المؤمنين به أن يترجموا معنى للحياة مع كل ما فيها من ألم وشر، بهذا الإيمان نموت مع المسيح ونقام معه!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چورچ مكين
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎