في واحدة من أكثر المجازر وحشية في تاريخ الكونغو الديمقراطية، عُثر على سبعين مسيحيًا مقطوعي الرؤوس داخل كنيسة فيكاسنجاشمال شرقالكونغو الديمقراطية، في هجوم يُعتقد أنه بواسطة مليشيا M23، أوالقوات الديمقراطية المتحالفة(داعش في: رواندا/ أوغندا/ الكونغو) [1].
اختطاف الضحايا بدأ في 12 و13 فبراير، عندما اقتحم مسلحون قرية مايبا
في منطقة لوبيرو
، وأدعوا بأنهم قوات أمن، ثم أمروا سكان القرية بالخروج من منازلهم بهدوء، وأثناء ذلك، تم اختطاف عشرين رجلًا وامرأة مسيحيين.
في اليوم التالي، وبينما كان الأهالي يبحثون عن وسيلة لإنقاذ المختطفين، نفذت الميلشيا هجومًا ثانيًا على القرية، وأخذت خمسين مسيحيًا آخرين كرهائن.
تم اقتياد جميع الأسرى إلى كنيسة بروتستانتية في بلدة كاسانجا
، التي كانت تُعد ملاذًا آمنًا، قبل أن تُربط أيديهم ويتم ضربهم بالمطارق والسواطير حيث تم إعدامهم بوحشية.
كان غالبية الضحايا من النساء والأطفال وكبار السن، وقد قُتلوا بعد تقييدهم واحتجازهم في الكنيسة، وفقًا لوكالة فيدس
للأنباء الكاثوليكية، التي أكدت ذبح مسلحي M23 أو القوات الديمقراطية المتحالفة
لجميع المحتجزين بالكنيسة [2].
القوات الديمقراطية المتحالفة
تعود أصول القوات الديمقراطية المتحالفة
إلى أوغندا
، حيث تأسست عام 1995 كحركة تمرد ضد الحكومة الأوغندية آنذاك، وتلقت الدعم العسكري من حكومة السودان حينها، لتنفذ الجماعة بعد ذلك سلسلة من الهجمات العنيفة، شملت تفجيرات في أواخر التسعينيات، وهي الفترة التي تلقت الجماعة دعمًا من عدة حكومات في الكونغو الديمقراطية، لتعيد تمركزها لاحقًا في شرق البلاد [3].
في أواخر عام 2018، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عن انضمام القوات الديمقراطية المتحالفة
كفرع تابع له. ومنذ عام 2019، بدأ تنظيم داعش
في تبني الهجمات التي تشنها الجماعة. وخلال الفترة بين عامي 2020 و2023، تسببت عمليات الجماعة المدعومة من داعش
في مقتل أكثر من 159 شخصًا واختطاف العشرات. وفي عام 2021، صنفت الولايات المتحدة الأمريكية جماعة القوات الديمقراطية المتحالفة
كمنظمة إرهابية. وفقًا لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن جماعة القوات الديمقراطية المتحالفة
، تبث بشكل متزايد دعاية تتماشى مع توجهات “داعش”، بما في ذلك فرض الشريعة الإسلامية في معسكراتها، واستهداف المدنيين غير المسلمين [4].
وفي عام 2023 أفاد تقرير وزارة الخارجية الأمريكية بأن الجماعة تمول عملياتها عبر السيطرة على المناجم وتصدير المعادن في الكونغو الديمقراطية. وأنها منذ 2017 تتلقى دعمًا ماليًا من مجموعات تمويل تابعة لـداعش
. كما أن الجماعة تسلّحت جزئيًا من خلال الاستيلاء على الأسلحة والذخائر من الجيش الكونغولي [5].
المسيحية في الكونغو
طبقًا للإحصائيات في 2015، المسيحية في جمهورية الكونغو الديمقراطية هي الديانة السائدة، إذ تُشكّل حوالي 96% من مجمل السكان. تتصدر الطوائف المسيحية الكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها 50% من سكان البلاد، ثم البروتستانتية بحوالي 39%، ثم الطوائف المسيحية الأخرى بنسبة 7%، وأخيرًا الكنيسة الأرثوذكسية بنسبة 0.1% [6].
للكنيسة الرومانية الكاثوليكية تأثير كبير في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويظهر ذلك في المجال التعليمي والصحي والاقتصادي. يدرس 60% من تلامذة الابتدائية + 40% من طلبة الثانوية في مدارس كاثوليكية [7]. وتُعد جامعة لوفانيوم
الكاثوليكية التي بناها الرهبان اليسوعيين عام 1954 أول جامعة في البلاد. وتدير الكنيسة الكاثوليكية شبكة واسعة من المستشفيات والعيادات، وكذلك العديد من المؤسسات الاقتصادية، بما في ذلك المزارع والمخازن ومتاجر الحرفيين [8].
لدى المسيحية في جمهورية الكونغو الديمقراطية تاريخ فريد مقارنةً بدول إفريقيا، إذ أنّ الوجود المسيحي سبق الاستعمار الأوروبي على إفريقيا. وصلت المسيحية لأول مرة في مملكة الكونغو عام 1491، مع المستكشفين البرتغال، وكان
ديوجو كاو
، وهو مستكشف برتغالي وأحد رواد عصر الاستكشاف، أول أوروبي سجل أنه رأى إقليم الكونغو ودخله [9]. ترك كاو
رجاله في الكونغو واصطحب معه نبلاء الكونغو إلى البرتغال، ثم عاد مع نبلاء الكونغو في عام 1485. في تلك المرحلة تحول الملك الحاكم نزينجا أفونسو نكوو
إلى المسيحية، واتخذ اسمًا مسيحيًا وهو جواو الأول
تيمنًا بملك البرتغال جواو الثاني
[10]، [11].
لاحقًا، أدى اعتناق
نزينجا مبيمبا أفونسو
للمسيحية، ابن جواو الأول
، والذي حكم مملكة الكونغو من عام 1506 حتى 1542 ودعي باسم أفونسو الأول
، إلى حملة تحديث واسعة في البلاد، وكان من نتائجها تحول سكان مملكة الكونغو إلى المسيحية، وقام بإعلان المذهب الكاثوليكي دين الدولة الرسمي. واعتمدت مملكة الكونغو شكلًا من أشكال الكاثوليكية متصالح مع تعدد الزوجات، واعترفت به البابوية، وتم الحفاظ على هذه المعتقدات لما يقرب من 200 سنة [12].
الإسلام في الكونغو
دخل الإسلام إلى الكونغو في 1830 عبر تجار الرقيق من المسلمين في الكاميرون والجابون وبلاد السودان، وأسلمت أعداد في شرق الكونغو بالأخص أقاليم جوما
ومانيماما
، وتمّ إنشاء المساجد، وترسَّخ النظام الإسلامي في حياة السكان، حتى مجال القضاء، فأصبحت هناك محاكم شرعية للمسلمين. وعلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أصبح جزء من الكونغو يدين بالإسلام، ويُدار وفق نظام الخلافة الإسلامية، وكان الخليفة في ذلك الوقت هو الشيخ عبد الرحمن تيبوتيبو
[13].
في تقرير لمنظمة الدعوة الإسلامية، الخرطوم 2011، جاء ما يلي [14]:
عمل الاحتلال على محاربة الإسلام والتمكين للمسيحية، التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الدخول للكونغو بعد الإسلام، ولكنها سرعان ما انتشرت بفضل دعمها بالإمكانيات من قِبَل الكنيسة والدول الغربية، وبخاصة بلجيكيا والفاتيكان، التي تمّ توظيفها في بناء الكنائس والمدارس والمستشفيات والمراكز الثقافية والأندية والجامعات، وغيرها من المؤسسات التي تمّ طبعها بالطابع النصراني.
استفادت الكنيسة من سياسات الاحتلال البلجيكي والقوانين والإجراءات التي وضعها لمحاربة الإسلام والمسلمين، وخدمة الكنيسة، والمواطنين الغربيين الأجانب الذين يعملون في المشروعات التنموية في الكونغو، وبخاصة إنتاج المعادن، كما أنّ الحرب الطويلة التي مرّت بها البلاد والفقر والأمراض وضعف الوعي لدى المسلمين الكونغوليين ساهم في تقوية شوكة الوجود الكنسي بالكونغو، وكانت البعثات التبشيرية التنصيرية التي وصلت للبلاد جزءًا من قوى الاستعمار إلى حدٍّ كبير، مثلها في ذلك مثل المكتشفين والتجار والجنود الغربيين.
وقد استطاع الاستعمار البلجيكي الذي كان أهمّ أهدافه نشر المسيحية في القارة الإفريقية أن يغرس روح الكراهية المفرطة نحو الإسلام والمسلمين في الكونغو، خصوصاً في منطقة كاسونجا، حيث تعرّض المسلمون للاضطهاد والتعذيب والسجن والنفي والقتل، وأكبر شاهد على ذلك إبادة الاستعمار في ٢ أبريل ١٨٩٣م لما يقارب خمسة وأربعين ألف مسلم.(تقرير لمنظمة الدعوة الإسلامية، الخرطوم، ٢٠١١)
ونحن لا نطرح الاقتباس العدائي السابق على سبيل تبني أيًا مما ورد فيه من أفكار ومعلومات، لكن لأنه ذكر منطقة كاسونجا
[كاسنجا
] وهي نفس منطقة الكنيسة البروتستانتية التي عُثر على سبعين مسيحيًا مقطوعي الرؤوس فيها. من الوارد أن الجماعات الدينية المسلحة تقوم بعملية عقاب على الهوية المسيحية، انتقامًا لمذبحة قام بها الاستعمار في القرن التاسع عشر، هذا على الأقل يُفسر الدوافع الانتقامية التي تجلت في طريقة التعذيب الوحشية بالمطارق على الرؤوس قبل فصلها عن الأجساد.
البروتستانتية في الكونغو
يعود أول نشاط للكنيسة البروتستانتية إلى عام 1878 عندما تأسست البعثة الأولى في الكونغو. وعلى عكس الاعتقاد الشائع بين الإسلاميين، فالعلاقات المبكرة بين الكنيسة البروتستانتية والدولة الاستعمارية لم تكن جيدة.
في أثناء حكم دولة الكونغو الحرة (1885-1908)، قام المبشرين البروتستانت بنشر وثائق عن الانتهاكات التي كانت تقوم بها الرابطة الدولية في الكونغو ضد السكان المحليين خلال عمليات جمع وبيع العاج والمطاط والمعادن في حوض الكونغو العلوي. وفي نهاية إرساليته الدينية، كتب
روچر ديڤيد كسمنت
تحقيقًا في كتاب صار يعرف لاحقًا بـالتقرير حول الكونغو
، وأثار ردود فعل كبيرة في لندن.
أُعتبر هذا الكتاب لاحقًا من أوائل الكتب التي بلورت مفهوم حقوق الإنسان
، وساعدت هذه الأدلة إلى القيام بحملات انتقادات دولية؛ وقد أدى ضغط الرأي العام والمناورات الدبلوماسية إلى نهاية حكم: ليوبولد الثاني
، ملك بلچيكا، وضم الكونغو كمستعمرة بلچيكية، لتعرف باسم الكونغو البلچيكية
. ونُقلت تقارير شهود العيان من المبشرين على أنها محاولات من قبل البروتستانت لتشويه سمعة الدولة المُستعمرة؛ بلچيكا، لاحقًا تم شنق روچر ديڤيد كسمنت
في إنجلترا، أغسطس 1916، بتهمة خيانة الملك [15].
كان موقع الكنائس البروتستانت خارج معادلة الثالوث الاستعماري في الكونغو البلچيكية الذي ضم مؤسسات الدولة، والكنيسة الكاثوليكية، والشركات، بالتالي لم تتمتع البعثات البروتستانتية بدرجة مماثلة من الثقة الممنوحة للكنيسة الكاثوليكية. يظهر ذلك من خلال الدعم الحكومي للمستشفيات والمدارس، إذ خصصت حكومة الكونغو البلچيكية أموال ومساعدات بشكل حصري للمؤسسات الكاثوليكية حتى بعد الحرب العالمية الثانية.
في عام 1925 كان الطبيب
آرثر لويس بايبر
[16] والمبشر من الكنيسة الميثودية، الطبيب الأول الذي قام باستخدام الدواء لعلاج داء المثقبيات الإفريقي [17]. وتوسعت البنية التحتية للرعاية الصحية بشكل مطرد طوال الفترة الاستعمارية، مع توفر أسرة المستشفيات نسبيًا بالمقارنة مع السكان ومع وجود مستوصفات في المناطق النائية. وفي بلچيكا، تأسست جمعية مكافحة الرق البلچيكية في عام 1888 من قبل المثقفين الكاثوليك، التي هدفت إلى إلغاء تجارة العبيد عند العرب [18].
الكنيسة واستقلال الكونغو (زائير 1960)
في فترة ما بعد الاستقلال، نمت عدم الثقة بين الكنائس المسيحية والدولة، وتفاقمت في أوائل السبعينات من القرن العشرين من خلال محاولات الحكومة الزائيرية الجديدة فرض العلمانية على كافة المجالات التعليميَّة. وظلت التوترات قوية بين الكنائس والدولة خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين.
في يونيو عام 1981، قام مجلس الأساقفة بنداء ضد النظام وضد الفساد والوحشية وسوء الإدارة وعدم احترام كرامة الإنسان التي انتهجتها حكومة الكونغو وفقًا لآراء الكنيسة. وجاء الرد الغاضب من
موبوتو سيسي سيكو
، ثاني رئيس للكونغو الديمقراطية، من خلال تحذير التسلسل الهرمي الكاثوليكي من البقاء بعيدًا عن السياسة؛ كما قام بإعادة تمركز مقاتلي حركة العدل والمساواة
في جميع أماكن العبادة لمراقبة المواقف الكهنوتية والعظات العامة.
خلال أشهر من هذا التراشق، شنت أطراف مجهولة هجمات ضد عدد من رجال الدين الكاثوليك ذوي المكانة العالية؛ منها على سبيل المثال استهداف منزل الكردينال چوزيف ألبرت مالولا
، حيث تعرض لهجوم أودى بحياة الحارس الليلي. ونصح الكردينال مالولا
الزائيريين قبل الانتخابات الرئاسية عام 1984 بالتشاور مع ضمائرهم قبل الإدلاء بأصواتهم؛ وقد استنكرت الحكومة هذا العمل باعتباره حماسة دينية [19].
وعلى عكس موقف الإخوان المسلمين في عهد الرئيس المخلوع، محمد مرسي في 2012 [20]، قادت الكنيسة الكاثوليكية في عام 2017 وساطة لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد والتوصل لحكم ينهي حكم الرئيس
چوزيف كابيلا كابنجي
بشكل سلمي [21]. ولعبت الكنيسة الكاثوليكية في الكونغو الديمقراطية التي تتمتَّع بتأثيرٍ كبيرٍ في الحياة السياسية دورًا محوريًّا في الوساطة والتوصل إلى اتفاق سلام في البلاد بين چوزيف كابيلا
والمعارضة، تعهَّد فيه كابيلا
على انتقال السلطة لرئيس جديد من خلال انتخابات نزيهة، التي تأجلت في عام 2016 وعام 2017. وقد عارضت الكنيسة استمرار كابيلا
في الحكم بعد انتهاء ولايته الثانية وفقًا للدستور، ورأت أنه كان من المفترض أن يتنحى في عام 2016 [22].
شهد نشاط الجماعات الإسلاموية فترة هدوء نسبي في أوائل العقد الأول من الألفية، قبل أن تعود لتنفيذ مجازر دموية في إقليم بيني
بمقاطعة شمال كيڤو
منذ عام 2014. ثم وسعت جماعة القوات المتحالفة نطاق عملياتها الإرهابية، حيث انتقلت هجماتها من إقليم بيني
إلى إيرومو
ومامباسا
في مقاطعة إيتوري
، والآن إلى لوبيرو
. وفي الشهر الماضي وحده، قتلت جماعة القوات الديمقراطية المتحالفة
المدعومة من تنظيم داعش، أكثر من مئتي شخص في منطقة باسواجا
وفقًا لتقارير محلية.
ارتفاع معدلات العنف بشكل ملحوظ، أدى إلى نزوح داخلي واسع، فارتفع عدد النازحين إلى أكثر من عشرة آلاف شخص، وهو ما يُمثل زيادة عشرة أضعاف مقارنة بالعام الماضي. وبسبب الهجمات المتكررة، تم التخلي عن قرى مسيحية بالكامل، وأُغلقت الكنائس والمدارس، وأُحرقت المنازل وسُلبت الممتلكات. كما زاد نشاط جماعة M23 المسلحة، المدعومة من رواندا، من تعقيد الأوضاع وأدى إلى تفاقم معاناة السكان المسيحيين.
المذبحة الأخيرة تأتي في وقتٍ أصبح فيه الإرهاب جزءًا من الحياة اليومية في المنطقة. ورغم مرور أيامٍ على المذبحة، لم تتمكّن العديد من العائلات من دفن ضحاياها بسبب استمرار التهديدات الأمنية. كما فرّ مئات المسيحيين من المنطقة خوفًا من هجماتٍ جديدة.