تُعدّ التطويبات جزءًا أساسيًّا من رسالة يسوع، لا سيّما في إنجيل لوقا حيث يقدّم تعاليمه بشكلٍ واضح وصريح. في هذه التأمّل، سنركّز على تطويبة الفقراء، والويل للأغنياء.
ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال: «طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون. طوباكم إذا أبغضكم الناس، وإذا أفرزوكم وعيروكم، وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا، فهوذا أجركم عظيم في السماء. لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء. ولكن ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشباعى، لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن، لأنكم ستحزنون وتبكون. ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنا. لأنه هكذا كان آباؤهم يفعلون بالأنبياء الكذبة».(إنجيل لوقا 6: 20-26)
من النصّ الذي قدّمه لوقا 6: 20-26. هناك مفارقةٌ كبيرة في كلام يسوع الذي يعلن فيه أنّ الفقراء هم الذين سيرثون ملكوت الله، بينما الأغنياء، الذين يمتلكون ما يشتهون في هذا العالم، سيواجهون شقاءً في المستقبل. إنّ لوقا يعرض هذا التناقض بطريقةٍ تتجاوز الكلام الروحيّ البسيط. فهو دعوة للتفكير في واقع الحياة اليوميّة، والتوجّه نحو العدالة والمساواة. يسوع هنا لا يعرض ملكوت الله على أنّه خلاصٌ روحيّ بعيد فحسب، بل على أنّه تحقيق للعدالة في الواقع الاجتماعيّ الذي نعيش فيه.
طوبى للفقراء، فإنّ لهم ملكوت السموات
التطويبة الأولى في لوقا تتوجّه إلى الفقراء
، وتستحق منّا تدقيقًا خاصًّا. في لغة الإنجيل، الفقراء
كلمة لا تعني فقط أولئك الذين يفتقرون إلى المال أو الممتلكات، بل يشمل كل من هم في أسفل السلم الاجتماعي: الذين يعانون من الظلم، الذين يواجهون التمييز، والمستبعدين من النظام الاقتصادي والاجتماعي.
يقول يسوع إن هؤلاء لهم ملكوت السموات
. ما معنى هذا؟الملكوت
هنا لا يُقصد به مجرد السماء
أو الحياة بعد الموت، بل هو إعلان عن تغيير جذري في هذا العالم، حيث يُعترف بالعدالة والمساواة، ويُرفع هؤلاء الذين اُحتُقِروا إلى مستوىً جديد من الكرامة.
لكنّ لوقا لا يقدم لنا هذا الوعد بوصفه مجرد تأكيد روحي، بل هو أيضًا دعوة للعمل: هل نعيش حياتنا بطريقة تمنح قيمة للآخرين الذين يعانون في مجتمعنا؟ هل نرى الفقراء والمستبعدين جزءًا من خطّتنا لتحقيق ملكوت الله على الأرض؟
ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم
يتبع الوعد بالفقراء، تحذيرٌ شديد لأغنياء هذا العالم. ويل لكم أيها الأغنياء
هو ليس فقط تحذيرًا روحيًا، بل هو تأكيد على حقيقة مريرة في الواقع الاجتماعي. الأغنياء في هذا السياق ليسوا أولئك الذين يملكون الأموال فقط، بل هم كل من يستغل سلطته وموارده بطريقة تسهم في استمرار الظلم أو التفاوت الاجتماعي.
يقول يسوع: لأنكم قد نلتم عزاءكم
. ما معناه؟
إن الأغنياء، أولئك الذين يستمتعون بكل ما يقدمه هذا العالم من رفاهية، يجدون عزاءهم في الأموال والمكانة الاجتماعية. لكن هذا العزاء مؤقت، فهو عزاء زائف لا يدوم، وقد ينقلب إلى شقاء في المستقبل. الفقراء قد يعانون اليوم، لكن لهم وعدًا بالراحة الحقيقية في ملكوت الله. أما الأغنياء الذين يعيشون في ترف، فمصيرهم سيكون مغايرًا.
إن هذه الكلمات تثير فينا تساؤلات كثيرة حول ما نملكه وكيف نستخدمه. هل نضع مالنا في خدمة الآخرين؟ هل نستخدم ثرواتنا لتحقيق العدالة وتوزيع الفرص، أم نكتفي بالاستمتاع بما لدينا ونغض الطرف عن معاناة من حولنا؟
العمق الاجتماعي: المفارقة بين الفقراء والأغنياء
يسوع في هذا النص لا يقتصر على إدانة الأغنياء بسبب المال أو الرفاهية بحد ذاتها، بل هو يشير إلى مواقف قلبية وعقلية. الفقر الذي يتحدث عنه لوقا ليس فقط ماديًا، بل أيضًا معنويًا. إن الفقراء هم أولئك الذين يعترفون بحاجة العالم إلى تغيير، الذين لا يضعون ثقتهم في المال أو القوة أو الوضع الاجتماعي، بل يعتمدون على الله لتحقيق الخلاص والعدالة.
أما الأغنياء فينظرون إلى ما لديهم على أنه علامة على التوفيق الشخصي أو حتى على رضا الله عنهم، مما يجعلهم في غالب الأحيان يرفضون الدعوة لتغيير الوضع القائم. هذه المواقف تجعلهم أكثر بعدًا عن ملكوت الله. لكن لوقا يوضح شيئًا مهمًا: الملكوت الذي يتحدث عنه ليس مجرد مكافأة في المستقبل بل هو دعوة لتغيير في الحاضر. هذه الدعوة ليست للمستقبل فقط، بل هي نداء لبناء مجتمع يعكس قيم العدالة والمساواة التي تمثلها رسالة يسوع.
طوبى لكم الجياع الآن، لأنكم ستشبعون
عندما يتحدث لوقا عن الجياع، يشير إلى أولئك الذين لا يحصلون على ما يحتاجون إليه. هنا لا يقتصر الجوع على الطعام، بل يتعداه إلى جوع العدالة، جوع الحقيقة، جوع الإحساس بالمساواة. هؤلاء سيشبعون في ملكوت الله. لكن هذا الشبع ليس بالمعنى المادي فحسب، بل هو شبع من الحق والرحمة والعدالة.
ويحدث التوازن في النص من خلال مقارنة بين الجياع الآن، الذين سيشبعون، وبين أولئك الذين شبعوا “الآن”، الذين سيجدون أنفسهم جياعًا في المستقبل. هذه المفارقة تعكس الحقيقة الإلهية العميقة التي تقول: “من يزرع في هذا العالم راحة الجشع، سيحصد في الآخرة الجوع.”
الخاتمة:
تتوّج هذه الكلمات بالدعوة لتغيير عميق في حياة كل واحد منا.
يسوع لا يطلب منا فقط أن نكون في جانب الفقراء والمستضعفين روحيًا، بل يطلب منا أن نكون عملاء للعدالة والمساواة في كل جانب من جوانب حياتنا.
الملكوت الذي يقدمه يسوع هو ملكوت يظهر في الواقع، حيث يكون المظلومون والأبرياء هم الذين يرتفعون في النهاية.
وفي الوقت ذاته، يدعو لوقا الأغنياء إلى التفكير في الطريقة التي يعيشون بها، ويحثهم على أن يتخذوا موقفًا من مسؤوليتهم تجاه المجتمع والآخرين.
هل ستظل متمسكًا بالمكاسب الفانية، أم ستسعى للعمل من أجل ملكوت الله الذي يشبع الجائعين ويعزّي الحزانى؟
لنصلي أن نكون شركاء في بناء ملكوت الله هنا على الأرض، ونعمل معًا من أجل مجتمع يعكس محبة الله وعدله.
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس