نشرت عبر حسابي على موقع فيسبوك، فيديو قصير، شاهدته لفتاة انتبهت لرجل مسن لا أحد يرعاه، يُظهر ملامحه التي شكّلها العوز وفعل الزمن، وملابسه الرثة ووجهه الذي لم يعرف الطريق إلى العناية الشخصية، فبدا وكأنه قادم من كهوف الجبال.
اعتنت به وأدت كل ما كان بحاجة إليه من نظافة واغتسال وتهذيب شعره ولحيته واستبدال ملابسه فاسترد نضارته وإنسانيته.
تفاجأت بالتفاعل الثري والموجع بآن من متابعي ما أكتب أو أنشر. الأمر الذي ذكرني بأن الاهتمام بالمسنين والمحتاجين وبالأخص الذين ليس لهم أحد يذكرهم والمنسيين كانت واحدة من الاهتمامات المصرية المجتمعية، على أرضية إنسانية مصرية خالصة.
ترجمها المصريون في القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين في إنشاء جمعيات أهلية مهمتها إنشاء وإدارة دور رعاية لهم، بعضها أسسها أثرياء مصر وبعضها تشارك أبناء الطبقة الوسطى في تأسيسها والاهتمام بها.
وأسندت إدارتها إلى أشخاص متبرعين متخصصين ومؤهلين، يؤمنون بها بوازع إنساني قبل أن يكون دينيًا.
وكانت هذه الجمعيات بجوار غيرها التي تبنت رعاية الأطفال الأيتام أو المرضى أو الأسر الفقيرة أو رعاية الفئات الأكثر احتياجًا أو القرى الفقيرة صِمَام أمان مجتمعي يحول دون اضطراب المجتمع أو نشوء صراع بين طبقاته، وحالت بينه وبين تشكل التوجهات المتطرفة.
وهي نفس الحِقْبَة الزمنية التي شهدت تعاظم ونمو ظاهرة الوقف الخيري الذي يوجه ريعه لرعاية المؤسسات العلمية، مدارس ومعاهد وجامعات، والخدمية، الأشخاص ذوي الإعاقة أو طلبة المدارس والجامعات الفقراء، أو غيرها من المشروعات الخدمية، مستشفيات ومدارس، والدينية، مساجد وكنائس.
لا أعرف ما الذي -وأيضًا من الذي- عطل نمو هذان التوجهان، العمل الخيري المؤسسي والأوقاف بكل صورها. وكيف اختطفت الأولى إلى المربع الديني، إنشاءًا وتوجهًا ومستهدفين، وكيف وأُدت الثانية وحوصرت ويتم تصفيتها تباعًا.
أرى أن هذه الخبرات المصرية وتجاربها التي أسهمت بشكل فاعل في دعم وحماية المجتمع، وترجمت السلام الاجتماعي على أرض الواقع، قبل فرض السيطرة عليها من جماعات المصالح أو تحجيمها بأشكال ورؤى مختلفة، صارت بحاجة إلى إعادة بعث، بما تملكه من قدرة على إطلاق سراح القيم المصرية من أسر التطرف ومن قيود البيروقراطية المتخوفة من العمل الاجتماعي الشعبي، الذي جرفته توجهات التسييس والعنصرية.
لا سبيل لهذا بغير مراجعة وفك القيود التي تحول دون انطلاق العمل الاجتماعي حسب قواعده الإنسانية التي لا تغازل السياسة أو التطرف ولا يُتَخذ منصات انطلاق لكلاهما.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨