سأعرض في هذا المقال أحبائي إحدى الشروحات الآبائية الهامة التي استخدمها آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا في شرح عملية الخلق من العدم، واستمرار الخليقة في التطور إلى أنواع مختلفة من الكائنات والمخلوقات. حيث نجد الآباء يتحدثون عن موضوع العلل البذرية في الخلق لتفسير عمل الخلق الواحد والمتعدد لله في نفس الوقت، حيث معروف أن الله يخلق مرة واحدة بمجرد مشيئته الصالحة، ولكنه في نفس الوقت خلق العالم في ستة أيام أو ست حقب زمنية طويلة الأمد تُقدر بملايين وآلاف السنين.
وهكذا فهم آباء الكنيسة الجامعة هذه المعضلة مبكرًا جدًا، وفكروا في التفسير السليم لهذه المعضلة الكتابية، ولجأوا إلى الرأي القائل بالعلل البذرية Rationes seminales، وهي فكرة رواقية بالأساس تذهب إلى أن الأشياء كانت في البداية على شكل بذور كامنة أخذت تنمو وتتطور وتظهر منها الأشياء، فالأشياء وُجدت من البذرة التي خلقها الله مرة واحدة ثم تطورت.
يقول الأب فريدريك كوبلستون أحد أهم شراح تاريخ الفلسفة عن نظرية العلل البذرية عند الرواقيين التالي:
الله إذًا هو العقل أو المبدأ الفعال الذي يحتوي داخل ذاته على صور فعالة نشطة لجميع الأشياء، التي يمكن أن توجد، وهذه الصور أو الأشكال هي البذور الكامنة، وهذه الأشكال النشطة الفاعلة -وإن كانت مادية- فهي بذور، إن صح التعبير، من خلال الذي تظهر به الأشياء الفردية إلى الوجود كلما تطور العالم، أو قل إنها بذور تفضي نفسها في صور الأشياء الفردية. لقد وُجد تصور هذه البذور عند الأفلاطونية الجديدة، وعند ق. أوغسطينوس تحت اسم العلل البذرية، حيث وجد في هذه الفكرة حلاً لمشكلة فعل الخلق، الذي لا بد أن يكون واحدًا على الرغم من تعدد الأشياء، التي هي دائمة النمو والتطور(فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة مج١ “اليونان وروما”، ص ٥٢٠)
نجد أصداء هذه النظرية عند آباء الكنيسة لشرح عملية الخلق، ونجد أن من أوائل آباء الكنيسة الذين استخدموا العلل البذرية في شرح عمل الله في الكون هو يوستينوس الشهيد، حيث يقول التالي:
لأن بذرة اللوغوس مزروعة في كل البشر… ليس كما كانوا يفعلون مع مَن كانوا يحيون بحسب بذرة اللوغوس، بل بالأكثر مع مَن يحيون بمعرفة وتأمل اللوغوس الكامل الذي في المسيح(يوستينوس الشهيد، الدفاع الثاني: ٨)
ويذكر أيضًا في نفس السياق عن عمل بذرة اللوغوس الإلهي في البشر التالي:
فكل واحد من هؤلاء من خلال اشتراكه في بذرة اللوغوس الإلهي، وما يتعلق به تكلم حسنًا جدًا، أما الذين ناقضوا أنفسهم في الأمور الهامة، فهم لم يكتسبوا الحكمة السماوية، والمعرفة القاطعة التي لا تقبل الجدل… حقًا إن جميع الكُتاب كان لهم قبس من الحقيقة بواسطة بذرة الكلمة المغروسة فيهم. لأن بذرة الشيء وما شابهها التي تعطي لكل واحد حسب قابليته هي أمر، والشيء الذي يتم الاشتراك فيه ومحاكاته حسب نعمة الله هو أمر آخر تمامًا(يوستينوس الشهيد،الدفاع الثاني : ١٣)
نجد إشارة أخرى مبكرة عن العلل البذرية عند العلامة الأثيني أثيناغوراس، حيث يتحدث عن البذرة الأولى في أجساد البشر كالتالي:
وبنفس السهولة التي صنع بها أيًا كانت الطريقة التي سيفعل بها ذلك [يقصد القيامة]. إذ إن هذا أيضًا مستطاع لديه بنفس الدرجة، ولا ضرر لهذه الحجة إذ أتت المكونات الأولى [لكل الأشياء] من مادة مشتركة كما يفترض البعض، أو أن أجساد البشر -على الأقل- مشتقة من العناصر -مثل المبادئ العليا- أو من البذرة الأولى. إذ أن القوة التي بإمكانها أن تعطي شكلاً لما يعتبرونه مادة [هي أصلاً] بلا شكل – ويجملها بعد أن كانت مفتقرة للشكل والترتيب- لا شكلاً واحدًا، بل أشكال عديدة ومتنوعة، وبإمكانها أن تجمّع الأجزاء العديدة للعناصر في واحد، وتقسّم البذرة إلى لفيف بعد ما كانت واحدة بسيطة، وتنظّم ما قد كان غير منظّم، وتعطي الحياة لما قد كان دون حياة(العلامة أثيناغوراس، مقالة عن قيامة الأموات: ٣)
ويتضح من هنا أحبائي استعمال آباء الكنيسة الأوائل لهذه النظرية في تفسير عملية الخلق، ولكن التوسع في استعمال هذه النظرية كان مع آباء العصر الذهبي سواء اليوناني أو اللاتيني.
نبدأ من ق. أثناسيوس الرسولي الذي يتحدث عن بذرة اللوغوس الغريزية المودعة في كل المخلوقات والعاملة فيهم كالتالي:
ولا أقصد بالكلمة [اللوغوس] تلك القوة الغريزية المودعة في كل الأشياء المخلوقة، التي أعتاد البعض أن يدعوها بذرة اللوغوس والعديمة النفس، والتي لا تملك المنطق ولا التفكير، لكنها تعمل من الواضح حسب فطنة مَن يستخدمها(أثناسيوس الرسولي، ضد الوثنيين ٤: ٤)
ويذكر ق. أثناسيوس بذار اللوغوس المودعة في البشر في موضع آخر قائلاً:
فضلاً عن أن الشيطان عدونا لما كان يحسدنا على تلك العطايا العظيمة، شرع طالبًا أن يغتصب بذار اللوغوس التي زُرعت فينا(أثناسيوس الرسولي، الخطاب إلى أساقفة مصر وليبيا : ١)
نجد أيضًا الإشارة إلى العلل البذرية في الخلق عند ق. باسيليوس الكبير، حيث يؤمن ق. باسيليوس بالخلق الآني اللحظي، ثم تتابع الخليقة بعد ذلك من خلال قوة الكلمة الدافعة داخلها، حيث يقول التالي:
ألا يوافق التعليم الديني الصحيح أن نقول أن القوة الدافعة والمحركة التي للعقل الإلهي هي بحق كلمة الله؟ إن كلمة الله [المسيح] هو ما يريد أن يوضحه الكتاب المقدس على أنه المشارك مع الله في خلق العالم(باسيليوس الكبير، الهيكساميرون ٣: ٢)
ويستطرد ق. باسيليوس مؤكدًا على فكرة إطاعة الأرض لأمر الله في لحظة واحدة بقوة الأمر الإلهي وطاعتها لقوانين الخالق للإنبات واستكمال مراحل النمو المختلفة كالتالي:
[لتنبت الأرض عشبًا] وفي لحظة بدأت الأمر بطاعتها لقوانين الخالق عن طريق الإنبات، وأكملت كل مراحل النمو، وأتمت عملية الإنبات، فتغطي الحدائق العشب الكثيف(باسيليوس الكبير، الهيكساميرون ٤: ٥، ٦)
ويستطرد ق. باسيليوس أيضًا موضحًا فكرة الخلق الآني واللحظي لكل الأنواع في لحظة واحدة برغم تعددها واختلافها في خواصها وصفاتها المميزة فيما بينها قائلاً:
وفي لحظة واحدة ظهرت كل تلك الأنواع إلى الوجود، كل منها بخواصه المميزة، ميزتها الاختلافات العديدة بين بعضها البعض، فلكل منها صفاته صفاته الخاصة(باسيليوس الكبير، الهيكساميرون ٤: ٦)
كما يؤكد ق. باسيليوس على فكرة الخلق الآني في لحظة واحدة بمجرد الأمر الإلهي، واستمرار الطبيعة في التطور عبر الأزمنة وإلى انقضاء الدهر كالتالي:
لذا فإن الطبيعة إذ هي تلقت الأمر الإلهي الأول، تستمر بغير توقف عبر الأزمنة وإلى انقضاء الدهر(باسيليوس الكبير، الهيكساميرون ٤: ١٠)
ويؤكد ق. غريغوريوس النيسي في نفس السياق على كلام ق. باسيليوس أثناء تعرضه لشرح عملية الخلق، واستكمال ما بدأه ق. باسيليوس في التوفيق بين عمل الخلق الإلهي الواحد والمتعدد الصور والأشكال والأنواع في آن واحد كالتالي:
يشير بوضوح إلى أن القوة المنتجة لكل واحد من المخلوقات تصبح نشطة بكلمة ما، بيد أن الكلمة هو القوة اللازمة لصُنع المعجزات(غريغوريوس النيسي، الهيكساميرون : ١٧)
ويؤكد ق. غريغوريوس بكل وضوح على وجود بذرة الإخصاب التي وضعها الله من أجل تكوين كل شيء من خلال الدفعة الأولى للخلق بطاعة مشيئته الإلهية كالتالي:
مكتوبوكانت الأرض خربة [لا منظر لها] وخاليةحتى أنه من خلال الكلمات يتضح أنه بمقتضى ذلك، أن جميع الكائنات كانت قائمة في البداية، أو هي الدفعة الأولى للخلق بحسب إرادة الله، كما لو كانت قد وُضعت بذرة إخصاب لتكوين كل شيء(غريغوريوس النيسي، الهيكساميرون : ٢٥)
نجد نظرية العلل البذرية بوضوح أيضًا عند ق. أوغسطينوس، حيث وجد فيها الحل والتوفيق بين فعل الخلق الإلهي الواحد والخلق المتعدد للأنواع المختلفة، لأنه رأى معضلة في التوفيق بين آية (سي ١٨: ١) “الْحَيُّ الدَّائِمُ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ عَامَّةً. الرَّبُّ وَحْدَهُ يَتَزَكَّى“، وستة أيام الخلق في سفر التكوين. فلجأ إلى نظرية العلل البذرية ليوفق بين الأمرين كالتالي:
لأنهم يقاومون رجل الله بأساليب وفنون السحر بخلق هذه الضفادع والحيات، ولكنهم ليسوا خالقيها، بل هناك في الحقيقة بعض البذور الخفية لكل الأشياء المولودة ماديًا ومرئيًا، والتي تكمن في عناصر العالم المادية، لأن البذور المرئية الآن لأعيننا في الثمار والأحياء مختلفة تمامًا عن البذور الخفية لهذه البذور المرئية السابقة، والتي أخرجت الماء منها وبأمر من الخالق الكائنات المائية الأولى والطيور، وأخرجت الأرض البراعم الأولى كأجناسها، والكائنات الحية الأولى كأجناسها (تك١: ٢٠- ٢٥)(أوغسطينوس، الثالوث ٣: ٨: ١٣)
ويستطرد موضحًا في نفس الموضع عمل هذه البذور الخفية التي خلقها الله في الكائنات الحية كالتالي:
لأن خالق هذه البذور الخفية هو نفسه خالق كل الأشياء، حيث أن كل ما يظهر لنا، ويمكن رؤيته بالولادة يستقبل المبادئ الأولى لحياته وسلوكه من البذور الخفية، ويبدأ في التغيرات والتحولات المتتالية ليصل إلى حجمه المناسب ولأشكاله ومظاهره الواضحة من هذه البذور التي هي المبادئ والقواعد الأصلية(أوغسطينوس، الثالوث ٣: ٨: ١٣)
كما يؤكد ق. أوغسطينوس على نظرية العلل البذرية في عملية خلق وولادة الأجنة في موضع آخر كالتالي:
هنالك علل جسدية أو بذرية، سواء كان ذلك بمساهمة الملائكة، أو البشر، أو أي كائن حي آخر، أو بمجامعة الجنسين التي توصّل إلى الإنجاب النوعي، أيًا كانت القوة التي تمارسها حركات الأمهات ورغباتها على ثمرة الحشا للتعديل في الملامح أو اللون، فإن تلك الطبائع نفسها مهما طغى على كيانها من تأثيرات متنوعة، تظل عمل الله السامي دون سواه، الذي بقدرة خفية منه، يلج كل شيء بحضور منه(أوغسطينوس، مدينة الله ١٢: ٢٥)
ومن هنا يتضح أحبائي أن آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا كانوا سابقين عصرهم في أمور كثيرة مفسرين كلمة الله بالخبرة الروحية الإيمانية المنقادة بالروح القدس، والمعرفة اللاهوتية المتعمقة من خلال الخبرة الروحية السابقة، علاوة على استخدامهم لمعطيات العلم في عصرهم في تفسير الإعلان الإلهي عن الخلق، والذي نراه يتفق في نواح عدة مع العلم، وهذا هو إسهام آباء الكنيسة وعظم إرثهم اللاهوتي والروحي والثقافي والحضاري والفلسفي في بعض الأحيان.
أرجو من الجميع أحبائي أن يحذوا حذو الآباء في معرفتهم اللاهوتية الاختبارية العميقة، وفي معرفتهم العلمية والثقافية والفلسفية المعاصرة لهم من أجل تفسير الإعلان الإلهي للجميع على أسس إيمانية وعلمية سليمة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي