وأنا طفل صغير، كان عندي قط مميز (شبه القط اللي أنا مسميه "القديس چيروم" في كيميت) ورغم إني بحبه جدا أكتر من بقية أخواته، ومدلعة طول الوقت، إلا إنه كان بيعاملني بغطرسة واضحة، أي حد من أخواتي يناديه، يروحله، أما أنا فمستحقرني ليه مش عارف، بالرغْم من حبي الشديد له وتدليلي الدائم، واللعب معاه، وبيه.
كان صعب عليّ -كطفل- إدراك انتهازية الحيوان القطقوط ده،
أو إني أكتشف الميكاڤيلية الناعمة اللي بتخليه لما يسمع صوت أخواتي، يعرف إن الأكل جاهز،
بينما صوتي أنا، معناه لعب ومخمضة وطبطبة ومياصة هو مش عايزها.
أو بشكل فلسفي كان صعب عليّ إدراك مدى استقلاليته،
أو إن ترتيبه لأولوياته بشكل غرائزي (أكل العيش أولا ثم المرقعة أخيرا) هو كان أنضج مني فيه.
ولأني كنت طفل لمض ومانمش الليل إلا أما أحلها، تفتق ذهني عن حيلة سمراء جميلة جدا علشان يحبني ويتمسك بيّا،
كنت باخده على حافَة شباك الدور الثالث كي يرى العالم تحته ويشعر بالخطر من السقوط، وكلما خاف أكثر، كلما تشبث بي أكثر وأكثر،
وكلما اتسعت حدقتاه من الرعب كلما زادت ابتسامتي الحنونة له قائلًا “لا تخف فأنا هنا” (وأنا اللي حاطه على سن الشباك أساسًا، ومظبّط ماكينة الرعب كلها)
وكل ما أحسه اتعود وحس بالطمأنينة، أنا أروح زاقه زقة ناحية الشارع،
فالقط المسكين يترعب ويترمي في حضني وكانه بيقولي: “لييييه؟!!”
فأنا استقبل الحضن وأنا منتشي. وأقوله: “أوع تخاف وأنا معاك”.
تقريبًا أنا أول طفل مصري عمل للقط البلدي متلازمة ستوكهولم بشكل عفوي فعال جدا.
ربما تجد في سلوكي بعض السادية، وهذا صحيح جدا ومن السوية أن تنظر للمشهد هكذا، كنت مجرد طفل لا يدرك الصواب من الخطأ، لكن أحب أطمنكم، الآن، عندما نضجت تغيرت نظرتي تمامًا، وفهمت إني كنت كائن قذر جدا مع القط المستقل، وإني كان لازم أحترم اختياراته، مش بس لأنها حقه، وإنما لكون القط رتب أولوياته الغريزية بشكل أعترف إنه أصح من ترتيبي.
القط ده علمني حاجات كتير،
من حوالي سنتين مثلا، صديق قديم ومتدين بعتلي تسجيل صوتي بيلف بالأسابيع عن فتاة (اسمها دميانة) من نجع حمادي وبتوصف رؤيا تمتلئ بالله والمسيح والعدرا والأنبا كاراس، والناس كانت بتتناقل التسجيل الصوتي بحسن نية على أساس إنها رؤيا، يعني أمر معجزي، خصوصا إن الفتاة راصة طقم قديسين ومفيش مشكلة من دعوة الناس للتوبة.
بس ده مشفتوش “تبشير” وإنما “تنفير” من الله، مبني على فكرة “العدالة الجزائية”، والقائمة على الاعتقاد بإن أي مصيبة تحيق بأي حد فهي بالضرورة عقاب إلهي عادل، الفكر ده موجود في العهد القديم كنوع من تفسير وجود الشر واﻷلم بأنه لحكمة مقصودة. اللي هي إيه؟ إنك تتوب! تتوب كدا في المطلق. ما أنت أكيد عامل أي حاجة، بدل ما تجيلك المصيبة من ربنا (المحب لخليقته!) وفي نفس الوقت بتاع “المصايب العادلة” كجزاء كلها!
نقيض الفكر ده موجود برضو في الكتاب المقدس، في سفر أيوب. والسفر ده كله من أقدم اﻷسفار اللي بترفض فكرة تفسير الشر بالعدالة الجزائية:
والخلاصة إني شفت ناس اعتقادها عن الله إنه بيتعامل مع البشر كطفولتي المشردة مع القط!
يبعتلهم ڤيروس علشان يحتاجوه؟ علشان يصلوا ليه؟ كلما زادوا رعبا، كلما نجحت الخطة؟
الله بيقولي “لا تخف لأني معك”، بينما هو اللي حاططني على سن الشباك ومظبط ماكينة الرعب كلها؟
واللي بيتناقل التسجيل متدينين متدروشين وفي قمة اليقين ومش شايفين السيكوباتية وحاسينها قمة الفهم الروحي العميق لسيكولوجية الله شخصيا. مش عارف جايبين الثقة اليقينية دي منين؟ من بنت ميعرفوهاش محتمل بتكدب أو بتتخيل أو مكانتش متغطية كويس، أو نايمة وجنبها ناس بتتكلم فحلمت باللي بيتكلموا فيه؟ ولا على أساس إن “دميانة” فسر لها أحلامها ناس كهنة وكهان وأساقفة متخصصين في تمييز الفارق بين الوهم والإيهام؟ بيفهم الإكليروس في تفسير الأحلام بشكل مختلف عن العراف الدجال؟ يعرفوا ربنا أكتر مننا؟ يعرفوا الڤيروسات أكتر مننا؟ طيب يعرفوا القطط أكتر مننا؟
بس أرجع وأقول القط ده علمني حاجات كتير.
علمني حاجات عن ربنا. ميعرفهاش غير أساقفة.
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟