في العام 313 ميلادية، أصدر الإمبراطور الروماني “گايُوس فلاڤيُوس ڤاليريُوس أَوريليوُس كونستانتِنُوس”، المعروف اختصارًا باسم “قسطنطين الكبير”، مرسوم ميلانو، الذي أعلن فيه إلغاء العقوبات المفروضة على معتنقي المسيحية، وأنهى حقبة اضطهاد المسيحيين بعدما أعتنق هو نفسه المسيحية، وجعل منها ديانة رسمية للدولة الرومانية، وأمر بحفظ يوم الأحد، وصادر المعابد الوثنية وحوّل الكثير منها إلى كنائس، وأعفى رجال الدين المسيحي من الضرائب، وأعاد أملاك الكنيسة المصادرة، وكان عهد الإمبراطور “قسطنطين العظيم” الذي توفي عام 337 هو النقطة الفاصلة في تاريخ المسيحية، ومن بعده توالى الأباطرة “قسطنطين الثاني” و”قنسطانطيوس الثاني”،
وفي عام 361 تولي “يوليانوس” الملقب بـ “الجاحد” عرش الامبراطورية الرومانية، وهو ابن أخو “قسطنطين العظيم”، غير أن “يوليانوس” ارتد عن المسيحية وانحسرت سيطرتها السياسية والعسكرية، وأستعدى المسيحيين ولا سيما الرهبان، وحاول أن يُعيد إحياء التعددية في الإمبراطورية الرومانية، وكتب “يوليانوس” رسالته الشهيرة: “ضد الجليليين”، والتي فند فيها العقيدة المسيحية وطعن في ألوهية المسيح وشكّك في أقواله وتعاليمه ومعجزاته، وتسبب ذلك في موجة من الغضب المسيحي تجاه الديانات المصرية واليونانية وأتباعها ومعابدها، حتي قُتل “يوليانوس” على يد حارسه المسيحي عام 363م على ضفاف نهر دجلة،
ومن بعده توالى الأباطرة “جوفيان” و”فالنس”، حتي تولى الإمبراطور “ثيؤدوسيوس الأول” الملقب بـ “الكبير” عرش الامبراطورية عام 378م، وتبنى المسيحية من جديد عام 380م، وجعل منها مرة أخرى ديناً وحيداً للإمبراطورية في العام 391م،
وفي نفس العام أيضا، أصدر “ثيؤدوسيوس الكبير” أوامره بإحراق مكتبة الإسكندرية لاعتقاده أنها تحوي أفكار وفلسفات ومؤلفات وثنية تخالف العقيدة المسيحية،
وفي عهد “ثيؤدوسيوس الكبير”، هاجم أتباع “الأنبا شنودة” الملقب بـ “رئيس المتوحدين” في مدينة “بانوبوليس” [حاليًا مدينة “إخميم”، محافظة “سوهاج” بصعيد مصر] أتباع الديانات المصرية القديمة في الأقصر وأسوان وباقي مراكز الصعيد، وشرعوا في تحويل المعابد المصرية إلى كنائس، وطمسوا أثار الفراعنة في المعابد بقدر استطاعتهم ونحتوا الصلبان بدلًا منهًا، مثل معبد الآلهة “إيزيس” بجزيرة “فيلة” بأسوان،
كما اعتدى الغوغاء من رهبان مريوط ووادي النطرون وأتباع البطريرك “ثاؤفيلس” على أفراد الطبقة الأرستقراطية في الإسكندرية من الوثنيين من أتباع ديانة “سيرابيس”، بالقتل وتدمير متحف مكتبة الإسكندرية والـ”سرابيوم” وما طالته أيديهم من المكتبات الفلسفية الغنوصية، على الرغْم أن الإمبراطور “ثيؤدوسيوس الأول” قد أرسل رسالة للبابا “ثاؤفيلس”، يسمح له بتحويل المعابد إلى كنائس، ولكن ينهاه بشدة عن قتل الوثنيين.
في العام 376م ولد “سيريل” / “كيرلس”، وهو أبن أخت البابا “ثاؤفيلس” البابا الثالث والعشرون الذي تولى تربيته وتعليمه العلوم اللاهوتية في الإسكندرية، وعندما شب “كيرلس” أرسله خاله البطريرك ليتتلمذ في دير الأنبا “مقار الكبير” بوادي النطرون، وبعد أن أتم فترة تعليمه عاد إلي الإسكندرية، وقام خاله بسيامته شماسًا وعينه واعظًا في الكنيسة، وكاتبًا له، تمهيدًا لتوريثه الكرسي المرقسي،
وبعد يومان فقط من وفاة البابا “ثاؤفيلس” في 15 أكتوبر 412 م، أرتقي “كيرلس” سدة الكرسي المرقسي في 17 أكتوبر سنة 412 م، ليصبح البابا الرابع والعشرون، وعلى الرغم من أن منافسه علي كرسي البطريركية رئيس الشمامسة “تيموثاوس” كان يحظى بدعم الحاكم الروماني المسيحي “أوريستوس”، لكن ربما كان دعم “أوريستوس” هو سبب رفض الأساقفة والرهبان تولي “تيموثاوس” منصب الباباوية، ذلك لأن “أوريستوس” كان الصديق المقرب للفيلسوفة الوثنية “هيباتيا” وتلميذها، إضافة أنه كان يتمتع بحب واحترام بقايا الوثنيين والجالية اليهودية في المدينة.
الذين لا يقيمون وزنا للحياة
كان البابا “كيرلس” يتمتع بصوت واثق وكاريزما قوية، مكنته من أن يسحر أفئدة المستمعين إليه، ويخلب عقولهم وتفكيرهم، وفاقت شهرته الحدود كواعظ، بسبب قدرته علي التأثير علي مستمعيه. وبمجرد توليه الكرسي الباباوي قام بتكوين جيش من الأتباع المخلصين من المكرسين (المنذورين للرب)، من بعض الرهبان والخدم والعبيد الذين أعُتقوا بعد اعتناق أسيادهم للمسيحية، وكان يطلق علي هؤلاء الأتباع “بارابولاني” وهي كلمة تعود بأصولها إلي تعبير يوناني بمعنى: “الذين لا يقيمون وزنا للحياة الدنيا”
كان أول ظهور للبارابولاني في عهد البطريرك “ديونيسيوس” في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، كمتطوعين بهدف مساعدة المرضي من فقراء المسيحيين ودفن الموتى خلال وباء الطاعون الذي ضرب الإسكندرية في تلك الفترة، ومنذ ذلك الحين أستمر البارابولاني تحت سلطة بطريرك الإسكندرية، حتي أعاد البطريرك “كيرلس” تنظيمهم للاستعانة بهم في الأحداث التي تستدعي القمع بالقوة، بالرغم من أن وجودهم في الأماكن العامة كان مجرمًا قانونيًا بسبب سلوكهم المتعصب العنيف.
بعد وقت قليل سرت الشائعات في المدينة تقول “أن حريقًا نشب في كنيسة، وعندما اتجه المسيحين لإطفائها هجم عليهم اليهود وقتلوهم”، فثارت ثائرة البارابولاني، وقاموا بالاستيلاء علي المعابد اليهودية الموجودة في الإسكندرية، واستولوا علي ممتلكاتهم ودمروا منازلهم. لا يوجد ما يؤكد تواطؤ البطريرك “كيرلس” في تلك الاعتداءات، لكن المؤكد أن موقفه كان سلبيًا ولم يردع أتباعه، ولم يردهم عن السلب والنهب، ولم يكتفي المسيحيون بذلك بل عمدوا على الإيعاز للإمبراطور “ثيؤدوسيوس الصغير”، حفيد “ثيؤدوسيوس الأول”، بطرد ما تبقي من الجالية اليهودية من الإسكندرية، والتي كان قوامها ما يقرب من 40 ألف يهودي، وكان “ثيؤدوسيوس” صبيا في الرابعة عشر من عمره، لذا لم يكن عسيرًا علي البابا “كيرلس” إقناعه بأن اليهود قد اجرموا في حق المسيحيين ولابد من طردهم، وأستجاب الإمبراطور الصغير وطرد اليهود من المدينة، حتى بالرغم من شكوى الحاكم الروماني المسيحي “أوريستوس” للإمبراطور من تصرفات الغوغاء وأتباع البطريرك،
وكرد فعل لشكواه، قامت جماعة من الرهبان بالتهجم علي عربة “أوريستوس” خلال سيرها في شوارع الإسكندرية، وقام الراهب “أمونيوس” من جماعة البارابولاني برشق الحاكم “أوريستوس” بالحجارة مما تسبب له بجروح بليغة، وعندما قام رجال الحاكم بالقبض علي الراهب وقتله طبقا للقانون. اعتبر البطريرك “كيرلس” ما حدث جريمة في حق الراهب المقتول، وصلى عليه بنفسه، وألقي عظة اعلن فيها “أمونيوس” شهيدًا من شهداء المسيحية وقام بتغيير أسمه إلي “ثاوماسيوس الرائع”، وعلي الرغم من عدم وجود نص تاريخي يقطع بتورط “كيرلس” في مهاجمة الحاكم الروماني، إلا أن رد فعله على ما حدث يدل علي أن الحادث كان علي اقل تقدير حائزًا علي رضائه.
بعدما تخلص “كيرلس” من يهود الإسكندرية، لم يجد أمامه من معارضين سوي المسيحيين الـ”نوفاتيين”، فأصدر أوامره بغلق كنائسهم في الإسكندرية وطردهم من المدينة مثل اليهود، والـ”نوفاتيين” هم اتباع الأسقف “نوفاتس” الذي كان معاصرًا لاضطهاد الإمبراطور “ديكيوس” عام 250، وأثناء الاضطهاد قام العديد من المسيحيين بالتظاهر بترك المسيحية خوفًا من الموت، وبعد انحسار موجة الاضطهاد عادوا مرة أخري إلى المسيحية، لكن كنيسة روما رفضتهم واعتبرت إيمانهم مشكوكًا في أمره، لكن الأسقف “نوفاتس” قبل إيمانهم بحسب تعاليم المسيح، وكانت سياسته معهم اكثر لينا، وبعد وفاة “نوفاتس”، ظلت الكنيسة ترفض قبول الـ”نوفاتيين” ونسلهم، علي الرغم من عدم وجود ما يشوب إيمانهم.
لُقب “كيرلس” بـ “عمود الدين” بسبب كفاحه ضد أفكار “نسطور” بطريرك القسطنطينية التي وصمت بالهرطقة، والتي كانت تتمحور حول رفضه استخدام لقب “ثيؤطوكوس” Theoticos والذي يعني “والدة الأله” لوصف العذراء مريم، وأصر على إطلاق لقب “والدة المسيح”، ونصب “كيرلس” نفسه كحامي حمي المسيحية، وارسل إلي بابا الفاتيكان “سلستين الأول” ليؤلبه على “نسطور”، وقام بتأليب الإمبراطور “ثيؤدوسيوس الصغير” على “نسطور” وأوعز إليه أن يدعو لإقامة مجمع كنسي لمحاكمته، وأرسل رسائل إلى زوجة الإمبراطور وإلى أخته الكبرى “بوليكاريا” Aelia Pulcheria ،لمزيد من الضغط علي الإمبراطور الذي أستجاب ودعا إلى مجمع مسكوني في مدينة أفسس عام 431م، وتولى “كيرلس” رئاسته، وحكم علي “نسطور” بخلعه من منصبه والحبس في خلوة لا يبارحها، وفي عام 433 ضُرب “نسطور” وأعُتدي عليه في محبسه من قبل بعض الغيورين علي الإيمان، فنفي إلي “البتراء” في الأردن حاليًا، ثم أعاده الإمبراطور إلي المنفى في مصر حيث أقام بين الواحات الخارجة وأخميم حتي مات عام 439.
نجاح البابا “كيرلس” في القضاء على “نسطور” إلى جانب فرض إرادته في طرد اليهود من المدينة أكسبته ثقة لا حدود لها، وبدأ خطابه الوعظي الديني تجاه الوثنين بشكل عام والفلسفة الأفلاطونية و”هيباتيا” التي كانت تشغل منصب كبيرة الفلاسفة بشكل خاص يأخذ منحني جديد أكثر تشددًا وعنفًا.
كانت “هيباتيا” ابنة “ثيون” أحد العلماء والفلاسفة القلائل المتبقين الذين تخصصوا في الفلسفة الأفلاطونية، ولمع اسمها كعالمة رياضيات، كما لمعت في تدريس الفلسفة وعلم الفلك في جامعة الإسكندرية القديمة الـ”موسيون”، وتتلمذ على يديها العديد من الوثنيين والمسيحيين علي حد سواء، وكانت إحدى أبرز الشخصيات في مجتمع الإسكندرية القديم، لدرجة أن الوالي “أوريستوس” كان أحد تلاميذها وأكثر أصدقائها قربًا، ولذلك اتهمه المسيحين والبارابولاني بالوثنية علي الرغم من كونه مسيحيًا معمدًا في القسطنطينية، وكان التفاف جمهور المثقفين حول الفيلسوفة “هيباتيا” يسبب حرجا بالغا للكنيسة المسيحية وللبابا “كيرلس” تحديدًا الذي كان يدرك خطورة “هيباتيا” على جماعة المسيحيين في المدينة، خاصة وأن أعداد جمهورها كان يزداد بصورة لافتة للأنظار، بالإضافة إلى تأثيرها على الوالي “أوريستوس” الذي كان بينه وبين البابا “كيرلس” صراعا سياسيًا على النفوذ والسيطرة على المدينة.
ونتيجة لخطاب البابا التحريضي المتشدد، وفي أحد أيام الصوم الكبير عام 415م، هاجم حشد مسيحي متعصب مكون من الرهبان والبارابولاني عربة “هيباتيا” وقاموا بإخراجها من العربة وجرها من شعرها، وجردوها من ملابسها ثم سحلوها وهي عارية تمامًا بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها إلي أن وصلوا بها إلي إحدى الكنائس، و إمعانًا في تعذيبها قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف وتقطيع لحمها عن عظامها إلى أن صارت جثة هامدة، ثم أخذوا أشلائها و ألقوها فوق كومة من الأخشاب لحرقها خارج أسوار المدينة، وقد كان هذا الحادث البشع له ابلغ الأثر في إثارة الرعب في قلوب من تبقي من علماء وفلاسفة الإسكندرية الذين رحلوا عن المدينة لتنطفئ شعلتها العلمية التي ظلت تضيء العالم القديم لأكثر من 700 عاما.
بعدما تخلص البابا من معظم أعدائه ألتفت للتعليم والكتابة، فكتب أطروحة للرد علي مؤلف الإمبراطور “يوليانوس” الشهير “ضد الجليليين”، ثم طلب من الإمبراطور “ثيؤدوسيوس” جمع كل نسخ كتاب “يوليانوس” وحرقها، ولما وجد أن الطريق إلي تدمير الكتابات المناوئة للمسيحية يسيراً، واصل طريقه بتدمير العديد من كتب الفلسفة والعلوم الهيلينية ومؤلفات الفيلسوفة “هيباتيا” أملًا في القضاء على تاريخها، كما قام أيضا بتدمير الكثير من مؤلفات “ديودورس” أسقف طرسوس (378-394م) و”ثيودور” أسقف المصيصة (392-428م) واللذان اتهمهم البابا “كيرلس” بفساد أفكارهم وانهم قد مهدوا الطريق لأفكار “نسطور” الفاسدة.
جلس البابا “كيرلس” علي الكرسي المرقسي نحو 32 عامًا كانت مليئة بالصراعات والمشاكل، ولقب بألقاب عديدة أشهرها “عمود الدين” و”الكبير” لنجاحاته في قمع الوثنية والنسطورية والقضاء علي بقايا العلوم والفلسفة الإغريقية، والتخلص من كل أعداء كنيسة الإسكندرية في فترة توليه للكرسي البابوي، وأعلنته الكنيسة قديسًا بعد موته وتحتفل الكنيسة القبطية بذكراه في الثالث من شهر أبيب المصري الموافق 10 يونيو من الشهور الميلادية بينما تحتفل الكنائس الكاثوليكية بذكراه في الثامن والعشرون من يناير.
References
- Cyril of Alexandria, Saint. (2013). Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica
- Surial Attia, Aziz (1991) Cyril I, Saint. Coptic Encyclopedia. Vol.3
- Kannengisser, Charles (1987) Cyril of Alexandria, The Gale Encyclopedia of Religion, Second Edition, Vol.3
- Scott-Moncrieff, Philip David (1908) Coptic Church, Encyclopedia of Religion and Ethics, Vol.4
- Foote, G. W & Wheller, J. M (1885) Crimes of Christianity
- عطية، عزيز سوريال (2005) تاريخ المسيحية الشرقية، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة
- القمص تادرس يعقوب ملطي- قاموس أباء الكنيسة
- السنكسار القبطي
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤