نستكمل معًا أحبائي ما بدأناه في المقالة السابقة من دحض التعليم غير الأرثوذكسي بنظرية الأجساد الثلاثة، وادعاء البعض بأن جسد المسيح الذي أخذه من العذراء غير جسده أي الإفخارستيا، وغير جسده أي الكنيسة، واعتبار جسد المسيح السري أي الكنيسة هو مجرد جسد رمزي اعتباري.
استعرضنا في المقال السابق آراء آباء الكنيسة الغربية اللاتينية حول هذا الموضوع، ووجدنا أنهم يؤكدون على وحدة الأجساد الثلاثة وعدم فصلهم عن بعضهم البعض، وسوف نستعرض في هذا المقال أقول آباء الكنيسة اليونانية الشرقية حول نفس الموضوع، لنرى أنهم مثل آباء الكنيسة الغربية يدحضون التعليم بالأجساد الثلاثة. وأود التنويه أحبائي قبل البدء في استعراض أقوال وشروحات الآباء أن ما أعرضه من أقوال الآباء وشروحاتهم هو بعض من كل، وقليل من كثير، وعشرات بل مئات من الشروحات تؤكد على وحدة الأجساد الثلاثة في المسيح، لذا لزم التنبيه.
نبدأ بالقديس أثناسيوس الرسولي معلم الأرثوذكسية، يدحض التعليم بالأجساد الثلاثة، ويؤكد على وحدتهم في شخص المسيح، لارتباطنا ككنيسته أي جسده معه، وصعودنا بواسطته إلى السماء في جسده، وهكذا يصير لنا شركة الحياة الأبدية، لأننا لم نعد بشرًا عاديين، بل صرنا في اللوغوس لوغسيين كالتالي:
“ولكن ارتباطنا بالكلمة الذي من السماء، فأننا نُحمل إلى السموات بواسطته، لذلك بطريقة مماثلة قد نقل إلى نفسه أوجاع الجسد الأخرى لكي يكون لنا شركة في الحياة الأبدية، ليس كبشر فيما بعد، بل أيضًا لأننا قد صرنا خاصين بالكلمة [أي لوغسيون]“
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ٣: ٣٣)
ويؤكد ق. أثناسيوس على أن المسيح أبطل اللعنة وهو كائن فينا أي في بشريتنا كالتالي:
“إذ أن لعنة الخطية قد أُبطلت بسبب ذاك الذي هو كائن فينا، والذي قد صار لعنة لأجلنا”
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ٣: ٣٣)
ويؤكد ق. أثناسيوس على نقطة خطيرة جدًا ينكرها البعض في عصرنا الحالي وهي أن موت المسيح كان موتنا جميعًا، وقيامته وتمجيده وصعوده للسماء كان هو قيامتنا وتمجيدنا وصعودنا، لأننا في المسيح نفسه أيضًا كالتالي:
“لأجل هذا السبب يُقال إنه إنسان مُجد أيضًا نيابة عنا ومن أجلنا، لكي كما بموته قد متنا جميعًا في المسيح، وعلى نفس المنوال أيضًا، فإننا في المسيح نفسه أيضًا قد مُجدنا مجدًا عاليًا، مقامين من بين الأموات وصاعدين إلى السموات، حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا”
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ١: ٤١)
ويؤكد ق. أثناسيوس في عبارة خطيرة جدًا على عدم اندهاش القوات السمائية عندما ترانا نحن المؤمنين بالمسيح أي كنيسته المتحدين به داخلين إلى مناطقهم السمائية كالتالي:
“لذلك لن تُدهش القوات السمائية حينما ترانا نحن جميعًا -المتحدين معه في نفس الجسد- داخلين إلى مناطقهم السمائية”
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ١: ٤٢)
ويؤكد ق. أثناسيوس على وحدتنا في جسد المسيح التي صرنا بواسطتها هيكل الله، وصرنا أبناء لله يُعبد الرب فينا كالتالي:
“أنه ليس اللوغوس بسبب كونه لوغوس هو الذي حصل على مثل هذه النعمة، بل نحن لأنه بسبب علاقتنا بجسده فقد صرنا نحن أيضًا هيكل الله -وتبعًا لذلك قد جُعلنا أبناء الله، وذلك حتى يُعبد الرب فينا أيضًا، والذين يبصروننا يعلنون – كما قال الرسول: أن الله بالحقيقة فيكم”
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ١: ٤٣)
ثم يؤكد ق. أثناسيوس على أن موت المسيح هو موت جميع البشر كالتالي:
“حيث أن الجميع ماتوا بواسطته، هكذا قد تم الحكم. وهكذا فإن الجميع يصيرون بواسطته أحرارًا من الخطية ومن اللعنة الناتجة عنها، ويبقى الجميع على الدوام قائمين من الأموات، ولابسين عدم موت وعدم فساد”
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ٢: ٦٩)
كما يؤكد ق. أثناسيوس على وحدتنا ووجودنا في المسيح بسبب سكنى الروح القدس فينا الذي يوحدنا معه، وهكذا نصير في الله ويصير الله فينا كالتالي:
“لذلك فبسبب نعمة الروح الذي أُعطي لنا نصير نحن فيه وهو فينا، وحيث إن روح الله فينا، لذلك فبواسطة سكناه فينا وبحسب حصولنا على الروح، نُحسب أننا في الله وهكذا يكون الله فينا”.
(أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين ٣: ٢٣)
يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم على نفس كلام ق. أثناسيوس على وحدة الأجساد الثلاثة في المسيح، وأننا نصير جسد المسيح ليس بالرغبة فقط، بل في الواقع أيضًا كالتالي:
“إن دور التلميذ هو ألا يفحص بوقاحة في تعاليم معلمه، بل دوره أن يسمع ويؤمن وينتظر الوقت لذلك لكي ما نصير جسده ليس بالرغبة فقط، بل أيضًا على مستوى الواقع، فليتنا نصير متحدين بذلك الجسد، وهذا بالحق يتم بواسطة الطعام الذي أعطاه لنا كهبة [أي الإفخارستيا]، لأنه أراد أن يبرهن على الحب الذي له من نحونا. إذ لهذا السبب أشرك نفسه معنا، وأنزل جسده لمستوانا أي نصير واحدًا معه كاتحاد الجسد مع الرأس، وهذا بالحق هو سمة حبه العظيم”
(يوحنا ذهبي الفم، عظات على انجيل يوحنا، عظة ٤٥ على يو٦: ٢٨- ٤٠)
ويتحدث ق. يوحنا ذهبي الفم عن وحدة الأجساد الثلاثة في موضع آخر بتعبيرات خطيرة جدًا قد تفاجئ البعض في عصرنا الحديث، كامتزاج المسيح بنا في جسده ليس بالإيمان فقط، بل بجعلنا جسده الحقيقي، حيث يقول:
“فلم يكن كافيًا للسيد أن يصير إنسانًا ويُضرب ويُقتل، لكنه بمزج نفسه أيضًا بنا، لا بالإيمان فقط، بل بجعلنا أيضًا جسده بالفعل”
(يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى، عظة ٨٢: ٥)
ويؤكد ق. يوحنا على نفس التعبير وهو امتزاجنا بالمسيح في جسد واحد في سر الإفخارستيا كالتالي:
“المائدة التي منها نقتات نحن، التي بها نمتزج ونصير جسدًا واحدًا ولحمًا واحدًا مع المسيح”
(يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى، عظة ٨٢: ٥)
ويشدد ق. يوحنا على نفس مفهوم امتزاج المؤمنين بالمسيح في الأسرار قائلًا:
“فالسيد يمزج ذاته بكل واحد من المؤمنين في الأسرار، وهو يطعم بنفسه الذين ولدهم ولا يسلمهم لآخرين، مقنعًا إياكم بهذا مرة أخرى أنه اتخذ جسدكم”
(يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى، عظة ٨٢: ٥)
ويعرِّف ق. يوحنا مفهوم شركتنا في جسد المسيح في موضع آخر قائلًا:
“لقد قال: شركة جسد المسيح، ليؤكد على أن ما نتناوله حقًا هو جسد المسيح المحيي، فعندما قال: شركة جسد، فإنه أراد أن يقول شيئًا يعبر به عن أن الاتحاد يمضي في طريقه نحو ما هو أكثر، ولذلك أضاف: فإننا نحن الكثيرين خبز واحد وجسد واحد (١كو١٠: ١٧) ولماذا يقول شركة؟ يقول إن هذا الجسد ذاته هو نحن، لأنه ما هو الخبز؟ إنه جسد المسيح. وماذا يحدث للمؤمنين الذين يتناولون منه؟ يصيرون جسد المسيح، وليس أجسادًا كثيرة، بل جسدًا واحدًا”
(يوحنا ذهبي الفم، عظات على رسالة ١ كو، عظة ٢٤: ٢)
أخيرًا، أحبائي أود التنويه إلى أنه لا يوجد أخطر وأبشع من نظرية تقسيم جسد المسيح إلى ثلاث أجساد على العقيدة المسيحية وتدبير الخلاص الذي لمخلصنا الصالح يسوع المسيح، لذا وجب دحضها ومحاربتها بكل قوة من كل إنسان مسيحي أرثوذكسي حقيقي غيور على عقيدته وخلاصه الأبدي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي