لنا في كل عيد غطاس [1] تأمل وعظة وعبرة وحياة في عماد المسيح في الماء ونزول الروح عليه في هيئة مجسمة كحمامة.
تكلمنا وأفضنا جدًا الكلام في دقائق الأمور الخاصة بالجوانب اللاهوتية والروحية، ولكن في هذا المساء نحاول أن نغطي هذا الموضوع بفكرة كبيرة على مساحة إنسانية وإلهية عريضة تبدأ من سفر التكوين وتنتهي عند جرن المعمودية.
أبدأ كلامي من سفر التكوين [2]:
في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة [لاحظوا هنا كلمةظلمةمرادفة لكلمةخربة وخالية] وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور.(سفر التكوين ١: ١-٣)
هنا يبدأ تأملنا، وندخل في الحال في عمق الموضوع: هنا أمامنا الآن عناصر الخليقة الروحانية «من الماء والروح».
نرجع للقديس يوحنا الرسول إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله
[3]. إذن، هنا وعلى الأرض بدأ باب مفتوح للدخول إلى ملكوت الله.
هذا كله قبل كل خليقة مادية وقبل خلقة الإنسان الترابي نفسه، بل وقبل سقوطه وموته. هكذا وضع الله في المشورة العظمى الإلهية، ليس عودة الإنسان وحسب بل وخلقته الأخرى التي ستؤهله للدخول في مُلك الله!
اختارنا فيه [في المسيح] قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.(رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس ١: ٤)
هذا في الحقيقة شمول رؤيا يلزم أن يعيش فيها الإنسان المسيحي. فالله لا يتدرج في فكره أو يساير الإنسان في مراحله ويعدّل ويبدّل في مشوراته على حسب واقع الإنسان، كما قد يبدو أحيانًا حسب قصر النظر الروحي؛ ولكن الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، كامل وكماله ينسحب على فكره وعلى إرادته وعلى كل أعماله بالنسبة لكل إنسان منذ آدم حتى آخر إنسان يولد على الأرض. الإنسان يقوم ويسقط، ولكن الله هو الله، عالٍ وفوق كل عالي في قيام الإنسان وسقوطه.
والذي يسترعي انتباهنا جدًا -أو كما يقولون- بالدرجة الأولى، أن خلقة الإنسان الروحية كانت مُعدّة للإنسان قبل خلقته الجسدية بل وقبل سقوطه، أليس هذا عجبًا حقًا؟؟
الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح، الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل.(رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس ١: ٩-١٠)
أقف هنا لحظة معكم، فليس مثل هذا الكلام الروحي في هذا العالم مقبولًا بالدرجة التي نقبلها نحن الآن، نحن الذين قبلنا وآمنا وولدنا حقًا من الماء والروح. أعود بكم إلى بعض أفكار غير المولودين من الماء والروح، فلنسمع لقول بعض الفلاسفة العظام الذين أضجرهم موضوع الخلق ومصير الإنسان:
فمثلًا نسمع من إمام الوجودية المعارضة وهو «هيدجر» [4]، وطبعًا يتكلم في غيبة كاملة عن الإيمان بالله، فيقول:
إن الوجود الإنساني هو استسلام الفكر بأن الإنسان كائن قذف به في العالم.(مارتن هايدجر)
ثم يعود ويقول:
إن الإنسان موجود ليموت. وهذا هو منتهى المأساة الفكرية.(مارتن هايدجر)
ثم إذ يسألونه: أليس هذا عجزًا واستسلامًا؟ يقول:
لا، بل يلزم أن نقبل الموت والنهاية بشجاعة…(مارتن هايدجر)
سراب وخراب!!
ثم لا أريد أن أستفيض معكم بما يقوله الفلاسفة الآخرون المعاصرون مثل «چان پول سارتر» [5] الذي يجعل مضمون الإنسان أنه:
موجود ناقص، يعطي لنفسه الكمال.(چان پول سارتر)
أو كما يقول أيضًا:
إن الإنسان يجهد ليمنح نفسه وجودًا مطلقًا يخلو من النقص.(چان پول سارتر)
الحقيقة والتاريخ كله ينفي ذلك. وفي الحقيقة «سارتر» هنا يترجم دون أن يدري خطية آدم، ويمتد بها ويصرّ عليها حرفيًا، إن آدم يريد أن يصير كالله!!
ولكن نعود الآن نحن المولودين من الماء والروح، الذين كنا ليس ناقصين فحسب، بل وكنا عدمًا بالخطية، كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا فأحيانا الله مع المسيح، وصرنا حائزين على وجودنا الأبدي في الله!!
نعود إلى تأملنا في روح الله وهو يرف على وجه الماء والأرض خربة وخالية. عجيبة هنا عناصر الخلقة الروحانية، ولكن بدون أي كائن حي!! لماذا؟ لأن عناصر الخليقة الروحية هنا بدون “إخصاب” -لو صحّ اللفظ- أي بدون كلمة الله.
فإذا نحن استطعنا أن نختزل الأزمنة من بداية سفر التكوين -أي خلقة الإنسان من التراب- ثم أزمنة العصيان ثم السقوط ثم الموت ثم الطرد، ونأتي سريعًا بحسب مضمون موضوع عيدنا «الإبيفانيا»، أي نزول المسيح إلى الأردن في مثل هذا اليوم؛ نرى أن عنصر الإخصاب بدأ يعمل عمله في الحال بين روح الله والماء.
هنا دخلت «كلمة الله» الحية الفعالة -اللوغوس- ابن الله، الأقنوم الثاني، بين الماء والروح، ليبدأ الله للإنسان الخليقة الجديدة بواسطة المسيح، لتكون على شبه المسيح ومثاله. وهنا المسيح خالق وكرأس للبشرية الروحانية وأبٌ مُخصب، هو آت بأبناء كثيرين إلى المجد [6].
معمودية يوحنا:
كذلك وعبر اللمحة السريعة التي أريد أن أغطي بها هذا الموضوع المتسع، لا أريد أن أعبر على معمودية يوحنا، لا أريد في عبوري أن أغفل معمودية يوحنا، التي قيل عنها أنها بالماء فقط للتوبة. هنا في الحقيقة، الروح القدس غائب، ولا يوجد إلا عنصر التطهير القديم، الماء، الذي يدخل كعنصر مناسب لتطهير الخليقة الترابية العتيقة لإعدادها، مع الاعتراف بالخطايا والذنوب لقبول الخلقة الروحانية الجديدة بوسيط آخر، أي بعنصر تطهيري فائق آخر غير الماء، عنصر تطهير روحي فائق، هو ناري في حقيقة طبعه، وهو الروح القدس!! حتى يبدد ما في الخليقة العتيقة من موت وفساد وخطية وهلاك، ويجعلها في حالة من الطهر الإلهي -إذا صح هذا التعبير- لتقبل الخليقة السرية بواسطة الماء والروح، عنصر الإخصاب «الكلمة» اللوغوس، لنولد الله على شكل المسيح وبالمسيح من الماء والروح.
إذن، ماهي المحصلة التي بلغناها الآن إزاء، أو في موازاة محصلة مارتن هيدجر الفيلسوف الوجودي الرافض؟
إنها محصلة عكسية، فهيدجر يقول إن الإنسان كائن قُذف به في الوجود ليموت.
انتبهوا جدًا هنا. بحسب سفر التكوين وبحسب الإبيفانيا والروح القدس والمسيح، وجدنا أن الإنسان كائن وُجد ليحيا. وما الموت الذي لزم أن يجوزه إلا إعدادًا لحياة بلا موت، فالأمر الإلهي بالخلود سبق السقوط والعقاب!! وملكوت الله معد للإنسان قبل أن يُخلق الإنسان تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم
[7].
إن هذه المحصلة أو الحقيقة في مفهوم العماد هي -بحد ذاتها- ليست عنصرًا مائيًا منعشًا ومحييًا فقط، بل عنصر رجاء لا يجب ولا يمكن هدمه بأية فلسفة كانت، لأنها حقيقة نحياها وليس نتمناها، فالحياة الأبدية تسري فينا منذ الآن والملكوت نعيشه بالروح.
السماء انشقت:
وإذا عدنا إلى موضوع عماد المسيح في الأردن الذي فيه اعتبرنا أن مجرد نزول المسيح في الماء وحلول الروح القدس يحوي تكامل العناصر الفعالة للخلقة الروحانية، الماء والروح والكلمة، حيث هنا المسيح خالق ورأس الخليقة الجديدة، أقول نلمح ظاهرة مؤكدة لهذه الحقيقة تصل إلى حدّ العجب، إذ أنه بمجرد أن تم نزول المسيح في الأردن، انشقت السماء. ما هذه الدلالة؟
هذه ظاهرة عجيبة حقًا، لأننا نسمع المقابل لها تمامًا عند حادثة تكميل موت المسيح الكفاري على الصليب من أجل العالم، إذ نستمع أيضًا أن انشقّ حجاب الهيكل الذي كان يفصل حضرة الله عن وجود الناس، حتى الأطهار -أي الكهنة- أي قدس الأقداس عن القدس. وهذا يعني أن الله رفع بنفسه الحجاب المتوسط بينه وبين الإنسان بموت المسيح!! وضار العالم كله مصالحًا مع الآب بموت ابنه عن خطية العالم كله!!
هنا في الأردن، بعماد المسيح نجد السماء نفسها تنشق، وتتكشف الحضرة الدائمة لله تعبيرًا عن التحام جديد وعجيب بين الله والإنسان، وليس بين السمائيين والأرضيين فقط، وذلك في شخص المسيح!! هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
[8].
إذن فهنا دلالة قاطعة على رفع الحجاب الأبدي والكوني الذي يحجز الآب في السماء عن الإنسان، أي إنسان اعتمد في يسوع المسيح. وكأنما الطريق من الأرض إلى السماء قد انفتح بانشقاق السماء، في وجه الأرض. وما نزول الروح القدس في الحقيقة إلا بمثابة الجناحين الجديدين الإلهيين، جناحي الحب الإلهي ليسوع المسيح، اللذين أُعطيا للإنسان الجديد المولود من الماء والروح ليطير ويحلّق بهما في سماء الله في حرية البنين.
كذلك فإنه بمجرد أن التحمت عناصر الخليقة الروحانية الفائقة، الماء والروح والكلمة، على أرض الشقاء؛ انفتحت السماء إعلانًا أن الوطن السمائي الذي تأسس للإنسان قد صار حقيقة مشاهدة ننتظرها ونرجوها؛ بل ونسمع صوتًا من السماء يعلن عن هذه المعاهدة الجديدة التي تمت في هذه اللحظات، إذ سلّم الآب ابنه للعالم ليصالح الجميع ويأتي بهم إليه!
ظهور الروح القدس بهيئة منظورة مجسمة كحمامة:
كذلك تدخل هذه الدلالة دخولًا مباشرًا وعميقًا في مفهوم الخليقة الروحانية الجديدة التي أكملها المسيح لنا في هذا السر المذهل الذي ظهر فيه كخالق للخليقة الروحانية الإنسانية، وكرأس مخصب لأبناء جدد لله الآب. لأن ظهور الحمامة نرى المقابل له في أيام الطوفان، عندما كان الماء هو عنصر الموت، لأنه لم يكن يخلو من روح الله. فكانت النقمة تلازمه وغضب الله فيه، فكان الماء للموت والهلاك، وظهور الحمامة في آخر لحظات هذه الخبرة المؤلمة في تاريخ البشرية كانت بشارة برفع الغضب الإلهي وبدء رضى الله، عندما عادت وفي فمها غصن زيتون أنبتته الأرض بعد الحصار لعنة الهلاك عنها.
هنا في المقابل نرى الروح ينزل من السماء على هيئة مجسمة كحمامة، وذلك عن قصد. فهذه الهيئة لا تعبر إطلاقًا عن شكل الروح القدس أو صورته، فنحن رأينا الروح الخمسين على هيئة نار أيضًا.
إذن، فظهور الروح القدس بهذه الهيئة -أي كحمامة- كان تعبيرًا إلهيًا عن أن الماء هنا يحوي عنصر الحياة الإلهية، وذلك يتناسب مع عملية الخلق الروحاني الجديد الذي انفتح مجاله للإنسان. وكأنما كان كل زمان البشرية السابق من آدم حتى المسيح هو طوفان مستمر؛ ثم بقبول الكلمة المتجسد النزول إلى الماء وتقبله الروح القدس ليكون رأس الخليقة الجديدة، بدأت حياة الإنسان حقًا مع الله وإلى الأبد.
هنا يتضح مرة أخرى أمامنا -ونحن بصدد فلسفة الوجوديين الملحدين- أن الحياة التي أعطاها الله للإنسان هي في حقيقتها الأولى والأخيرة حياة لحياة. والمسيح لن يكون حياةً لموت فيما بعد!! بل وحياة يلازمها نشيد إلهي رائع في صمت يحكي عنه الروح القدس وهو نازل من السماء كحمامة، وصوت الله، بالسرور، هذا النشيد الصامت تعرف القلوب المؤمنة وحدها أن تترجمه. فهي حياة جديدة مفعمة بالسلام!! للقلوب الوديعة!! التي نالت وتنال كل يوم قوة هذا الميلاد عينه من فوق من الماء والروح مع الكلمة ورضى الآب في السماء!!
وهكذا بنزول المسيح في الأردن وحلول الروح القدس عليه وإعلان صوت الآب في السماء، هذا المعبر عنه كنسيًا بعيد الإبيفانيا، أي ظهور الآب والابن والروح القدس، هو في الحقيقة تدشين أول معمودية على الأرض باسم الثالوث، كبدء فعال لا ينتهي ولن ينتهي إلا بانتهاء الزمان، من جهة ميلاد الإنسان ميلادًا جديدًا من الله، روحيًا من فوق، من السماء لحياة أبدية.
وهكذا صارت أرض الشوك والشقاء واللعنة، الأرض العاقر التي كانت تسقي الإنسان الألم حتى الموت، والتي كانت تلد الإنسان لتميته فعلًا، وتتركه للأيام لتكفنه بخطاياه، وتدفنه الأيدي الحزينة كل يوم في أعماق لعنتها، هذه الأرض عينها صارت بميلاد المسيح الكلمة ابن الله متجسدًا ثم نزوله في الأردن معتمدًا والروح القدس حالًا عليه، أقول صارت هذه الأرض من داخل الكنيسة ومن داخل جرن معموديتها، بطنًا جديدة سماوية تنسل أبناءً لله جددًا، لسلام وحياة لا تزول.
الإبيفانيا [عيد الغطاس]، بقلم الأب متى المسكين، كلمة ألقيت في عيد الغطاس بدير القديس أنبا مقار، برية شيهيت. ونُشرت أوّل ما نُشر في مجلة مرقس، عدد يناير ١٩٧٩، الصفحات من ٢٧ إلى ٣٣
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله