ما أشبه اليوم بالأمس البعيد، الموغل في البعد، ربما لقرون، فيما نشهده من صراعات تشبه صراعات الديكة، في دائرة المتقدمين في دوائرنا الكنسية، ربما الفارق بين شخوص اليوم ونظرائهم في ذاك الأمس هو في قدر المعرفة التي تأسس عليها الصراع، فبينما كان أسلافهم قامات لها ثقلها في علوم اللاهوت والمنطق والتحليل، نجد فرقاء اليوم تستغرقهم الضحالة المعرفية، برغم زعمهم أنهم الأعلون علمًا ومعرفة بحكم مواقعهم المتقدمة، سواء في مقاعد السيطرة أو في صفوف أولى قريبة منها أو مناوئة لها.
بعضٌ من مبررات صراع الأولين اختلاف المرجعيات اللغوية والفكرية؛ ففريق منهم ثقافته المعرفية يونانية الفكر واللسان، وفي مقابل فريق ثقافته -فكرًا ولسانًا- لاتينية، الأمر الذي جعل فهم كلاهما لمصطلحات الآخر يحتاج تدقيق واستيعاب لم يتوفرا لبعضهم في خضم احتداد النقاش، الذي لم يكن كثيره مجردًا من تدخلات السياسة وتوازناتها.
هذه المبررات ليست الوحيدة، فقد نجم عن استقرار الكنيسة وانتهاء موجات الاضطهاد الممنهج والرسمي بدعم الإمبراطورية الرومانية، أن انطلقت القراءات المخالفة للإيمان المسيحي حسب الكنيسة الأولى، مما استنفر رجال الكنيسة الأتقياء الأمناء للرد عليها وتصويبها، في دوائرهم المحلية، لكن المواجهات تفاقمت لتحدث سجسًا في الشارع يهدد استقرار الإمبراطورية، الأمر الذي دفع الإمبراطور قسطنطين إلى دعوة الفرقاء للاجتماع تحت رعايته للتوافق على صيغة إيمانية واحدة، وكان تحركه هذا لحماية امبراطوريته من الانشقاق، فكان اجتماعهم المسكوني الأول في مدينة نيقية 325 م.، ليبدأ عصر المجامع المسكونية. وهو العصر الذي انتهى وقد دب الانشقاق الرسمي في جسد الكنيسة، وزوال الإمبراطورية.
مشكلة الفرقاء الجدد أنهم لا يقرأون التاريخ، ويصنّمون مجريات عصر المجامع، وينكرون ما كان يحاك فيه من مؤامرات داخل وحول تلك المجامع، وتحالفات بعض قيادات ومتقدمي تلك المجامع مع سيدات القصر اللواتي كنّ يوجهن صراعات جلساتها الرسمية وفق مواقفهن من أطرافها، وقد كشف طيف منها كتاب مجمع خلقيدونية إعادة فحص
للأب في. سي. صموئيل، وهو كاهن وباحث ومؤرخ هندي أرثوذكسي، وتعرضت له المؤرخة المصرية إيريس حبيب المصري في موسوعتها قصة الكنيسة القبطية
وتحديدًا في كتابها الأول منها.
ولنا نموذجًا في حكاية ق. ديسقورس ورسالته لشعبه الهائج، في أثناء انعقاد مجمع خلقيدونية 451م.، والمرفق بها شعيرات ذقنه وبعض من ضروسه التي سقطت من جراء التعدي عليه، وقد وصفها بأنها ثمن دفاعه عن الإيمان القويم في مخاتلة سياسية فجة. ونحن لا نتعرض هنا لواقعة الاعتداء بذاتها وملابساتها، إثباتًا ونفيًا، فتلك مهمة المؤرخين.
فرقاء اليوم يكررون بغباء ينفردون به حصريًا تبادل نفس التشويهات والاتهامات، من جانب، والمعالجات الهزيلة، التي تستحضر التسامح في غير موقعه وظروفه، معولين بوهن على الزمن، على جانب مقابل، وينتظرون بقاء كياناتهم مقدسة جامعة رسولية!!
يصدرون للشارع صورة التقوى فيما الفساد ينخر عظامهم، وتتولى ملابسهم الإمبراطورية، المفارقة للزمن والمنطق، ومجامر عبيدهم الذهبية بهالات بخور تحرق أمامهم، تغييب الوعي وتخدير الحس اللاهوتي، ويحرصون على ألا يطير الدخان.
لم أستطع أن أقرأ تطمينات القديس بطرس كما صاغها في رسالته الأولى، على واقعنا، فالبلوى المحرقة الحادثة بيننا ليست لامتحان إيماننا، بل بسبب فساده. وقد اختلط برؤى وثنية كارثية. بإلحاح انقلاب من قفزوا على مقاليد الأمور، الذي اقتحمنا مواكبًا لنكسة عامة تشكلت ملامحها مع قدوم النصف الثاني من القرن العشرين، وكان من نتائجها رهبنة الفضاء العام لحياتنا خارج أسوار الأديرة، وهو توجه وجد قبولًا شعبيًا تحت تأثير التغيرات الضاغطة سياسيًا ومجتمعيًا، آنذاك، مع المد الأصولي في المزاج العام، كان ظاهر هذا التوجه روحيًا لكن باطنه كان تمكينهم من السيطرة برؤاهم النفسانية على العقل الجمعي للتابعين، وكان لهم ما أرادوا.
وفي واحدة من نتائجه الكارثية؛ الانفصام الذي تمكّن من عدد غير قليل من الشباب الذي وقر في ذهنة أن الطهارة في التبتل، والزواج -حسب ما تلقنه- هو ثمرة السقوط، فاكتظت بهم محاكم الأسرة، وهجروا بيوتهم وبعضهم ذهب يطرق أبواب الإلحاد. وتئن البيوت بمآسي تنفطر لها القلوب.
لذلك يقاومون كل محاولات التواصل الجاد مع الكنائس الأخرى، التي قفزت فوق أسوار الجمود، ووضعت الإنسان فوق السبت وقبله، وفعّلت طاقات الرهبنة لخدمة الإنسان، وامتلكت شجاعة المراجعات في ضوء تطور علوم اللغويات وعلوم الترجمة، ودعت لحوارات مسكونية كنا مشاركين فيها، ولكن جهودنا كسرت على أعتاب بعض أصوليين لم يدركوا فداحة التشرذم.
ولم تعي كيف كسرت تلك الكنائس فخ الإنسان العتيق الذي تشَكّل وجدانه هنا بثقافة عثمانية، هذا البعض مازال يتبنى ثقافة الموت والهوان ولم تدركه بهجة الإيمان وفرح الحياة في المسيح، عبر لاهوت الحياة.
الأزمة ليست في هذا الأسقف وتحالفاته أو ذاك الشماس وجماعته، بل فيما زُرع والناس نيام وأكلنا ثماره المسمومة.
فلنبحث بوعى وموضوعية عن أبواب الخروج. ورد المسلوب وتحرير المأسور، بغير أن يرهبنا منهج المقاومين حماية لمصالحهم ومواقعهم في إثارة العامة وصراخهم؛ اصلبه… اصلبه.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨