العهد الجديد أو المسيحية ليست هي المقابل للعهد القديم أو اليهودية [1]. ولكن العهد الجديد هو استعلان وتحقيق لكل وعود وأسرار العهد القديم، ممثلة في المسيا وملكوت الله والخلاص [2].
وأقول: إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان، من أجل صدق الله، حتى يثبت مواعيد الآباء. وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة، كما هو مكتوب: «من أجل ذلك سأحمدك في الأمم وأرتل لاسمك». ويقول أيضًا: «تهللوا أيها الأمم مع شعبه» وأيضًا: «سبحوا الرب يا جميع الأمم، وامدحوه يا جميع الشعوب». وأيضًا يقول إشعياء: «سيكون أصل يسى والقائم ليسود على الأمم، عليه سيكون رجاء الأمم».(رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ١٥: ٨-١٢)
والكنيسة الآن في العالم وفي كل الأمم، هي استعلان وتحقيق آمال كل أسفار العهد القديم عن مملكة الله، حيث المسيح الرأس هو الذي يحكم ويدبر مملكة الخلاص المسكونية، لأن كل أمل ورجاء شعب إسرائيل بكل أنبيائه وأجهزته، كان ينتهي عند الخلاص للعالم كله الذي هو جاري الآن بواسطة الكنيسة.
كما يلاحظ أن هناك نموًا في تصوير ملكوت الله الآتي على مدى أسفار العهد القديم، وكذلك من جهة التوضيح والتنبؤ بالمسيا.
لذلك في بداية استعلان ملكوت الله في أيام يوحنا المعمدان لما بدأ يكرز بالتوبة، حدث تكتل وازدحام، لم يسبق له مثيل في حياة كافة الأنبياء، لان الوعي والإحساس بقرب ظهور واستعلان الملكوت كان قد بلغ تمامًا نضوجه فكان على أشده، وهذا الترقب والوعي نراه بوضوح في إعلان سمعان الشيخ وحنه النبية.
كما كان روح النبوة حاضرًا على لسان زكريا وأليصابات ويوحنا بصورة تؤكد أن الملكوت قد صار بالفعل على الأبواب. ولكن كان يوحنا المعمدان صادقًا جدًا مع نفسه وشعبه: لست أنا المسيا!!
ولا يمكن أن ننسى أنه بسبب صدق وإخلاص يوحنا المعمدان صار قبول المسيح -باعتباره مسيا الخلاص- في بدء خدمته قبولًا شاملًا، فالجموع التي كانت ملتفة حول يوحنا المعمدان، وحتى من أخلص تلاميذه، تحولوا إلى المسيا. وكان يوحنا راضيًا بذلك ينبغي أن هذا يزيد وأني أنا أنقص
[3].
لقد قبل كل الشعب المسيح بصفته الملك الآتي باسم الرب من نسل داود، ليعلن بدء مملكة المسيا المعروف أنها تدوم إلى الأبد. لذلك لما توانى هو في إعلان نفسه، لم يتوانوا هم عن أن يحملوه ليجعلوه ملكا بالقوة!! ولكنه جاز وسطهم، لأن فهمهم للخلاص ولمُلك الله جاء ناقصًا وخاطئًا.
كل هذا يوضح مدى تغلغل عقيدة وإيمان ملكوت الله القادم عند كل الشعب، حتى الأمميين مهم، لان للشعب دائمًا حساسية مرهفة جدًا من نحو عمل الله: «صوت الله من صوت الشعب».
كما يلاحظ في تاريخ إسرائيل أن هناك ترابطًا قويا بين أزمنة الأحزان والسبي وتأديبات الله المُرة، وبين تألق الرجاء بمجيء المسيا: للخلاص. لان من الذي يشتهي الخلاص إلا الذي يحس بمرارة السبي سواء كان بالجسد أو الفكر أو الروح؟!!
لذلك لم يؤثر ما عاناه شعب الله بمرور الزمن نحو ١٨ قرنًا من المآسي والآلام والمحن والاضطهادات لم تطفئ الرجاء بمجيء المسيا في قلب الأجيال، وترقّب استعلان الله في شخص الملك الآتي باسم الرب الذي سيصنع الخلاص علانية!!
ونظرة سريعة إلى سفر المزامير عامة وخاصة في مزمور الرب قد ملك فلتتهلل الشعوب [الأرض] الرب قد ملك فلترتعد الشعوب
[4]، تكشف مدى حرارة الانتظار ومحاولة رؤيا الملك القادم من خلال العتمة، عتمة الأزمنة والحوادث.
وليس المزامير فقط، بل كل النبوات لم تكف عن الإشارة إلى ملكوت الله وإلى المسيا الآتي، ليحكم الأرض كلها بالعدل والبر. يجمع الشعوب تحت رايته ويضم المفديين إلى حظيرته والكل يسبحه ويخدمه.
ثم كلما انحرفت أخلاق الشعب وفسدت الضمائر وانقلبت الأعمدة، أي الرؤساء، وساءت الظروف؛ ازداد الرجاء جدًا بمجيء الملك الذي يصحح انهيار أخلاق الشعوب، ويشفي ضربة المرض التي أصابت الشعب من جهة انحلاله الخلقي.
وتزداد النبوات إيضاحًا في بعض المواضع لتصور الله أنه هو الذي سيملك بنفسه ويضرب الأمم العاصية بعصي غضبه ويبيد المنافق بنفخة شفتيه! ويصير الله أبًا أبديًا للمفديين الذين يعفي عنهم، ويدعى رئيسًا للسلام علي الأرض!!
ثم يأتي المسيا ويعمل كل الأعمال المنصوص عنها. وهذا يسجله الإنجيل، لما أرسل يوحنا تلاميذه يسألونه هل أنت الآتي أم ننتظر آخر، أي: هل أنت الفادي والمخلّص والشافي الذي سيملك على إسرائيل ويُخضع كل الأمم والشعوب؟
فكان رد المسيح اذهبوا وقولوا له: إن كل الأعمال المنصوص عنها في النبوات أن المسيا الآتي سيعملها ها هي معمولة أمامكم: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُطهّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ
[5]، أي: طوبى لمن يقبل المسيح أنه هو هو ملك البر الآتي، قد وجدنا الذي قال عنه موسى والناموس وكتب الأنبياء، يسوع الناصري ابن يوسف
[6].
لذلك فإن ملكوت الله معناه الروحي في العهد الجديد هو ميراث ثمين جدًا استلمناه من الأنبياء، بل هو الرجاء الغالي لكل الأجيال التي ماتت على هذا الرجاء!!
لقد كان ملكوت الله المزمع أن يعلنه ويباشره المسيا الآتي هو أعمق وأغلى أمل عند الجميع، لا الأنبياء وحسب، بل وكل الربّيين والمعلّمين وكل الشعب، وعلى أساس ملكوت الله الآتي، كانت تُشرح الأسئلة ويُرد على كل استفسار وقالت المرأة [السامرية]: أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء
[7].
الوجه المنظور للميلاد:
لقد اعتدنا أن نركز تأملاتنا السابقة عن الميلاد، فيما تم على مستوى الرؤيا والتاريخ، فالكلمة صار جسدًا ورأينا مجده، والحياة أُظهرت، ورأيناها بعيوننا ولمسناها بأيدينا، والله ظهر في الجسد.
والرعاة أخذوا من السماء إشارة مسموعة وتصريحًا للزيارة ليروا الآية في المغارة طفلًا مقمطًا ومضجعًا في المذود بإعلان رسمي أنه هو هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم، والمجوس جاءوا من سفر بعيد للغاية، يرشدهم نجم سمائي تحركه القوة العلوية، لكي تأتي الشهادة لمخلص العالم من خارج إسرائيل، عندما أخفق الرؤساء والربّيون في المعرفة والشهادة لمخلصهم.
الوجه غير المنظور لميلاد المسيح:
خلاصٌ ومُلكٌ أبديّ:
ولكن اليوم نريد أن نتأمل فيما حدث في يوم ميلاد المسيح من الوجه الآخر غير المنظور، والذي تبرهن على مسرح التاريخ والزمن بقوة فائقة. كما تبرهن لدى الرسل والقديسين والكنيسة كلها، أن المولود هو بالفعل الملك الآتي، المخلّص، والفادي، الحامل «لمفتاح» بيت داود الذي يغلق ولا أحد يفتح، ويفتح ولا أحد يغلق، الذي هو ملكوت أبدي ما لن يزول، كما رآه دانيال النبي.
هذا الوجه الآخر قد حدث بميلاد المسيح، إذ تم في المسيح وعد الله ببدء أزمنة الخلاص، واستعلان ملكوت الله على الأرض الذي يسوسه ويدبره، الذي طالما تكلم عنه الأنبياء بلا ملل؛ أما الخلاص فشهد له جمهور جند السماء يولد لكم اليوم مخلص
. وأما «المُلك الأبدي» فشهد له المجوس أين المولود ملك اليهود، جئنا لنسجد له
.
إذن نستطيع أن نتحقق في الوجه غير المنظور ليوم الميلاد. سقوط عروش وقيام عروش، وانتهاء أزمنة وابتداء أزمنة، كما قالت العذراء القديسة مريم في تسبحتها الخالدة أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتضعين
، صنع قوّة بذراعه
. وكما صرح ملاك البشارة بكل وضوح وجلاء هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية
.
عجيب أيها الأحباء، أن يُعلن ملكوت المسيح الخلاصي، والمسيح في البطن قبل ميلاده، بهذا التأكيد المتعدد الجهات من ملاك البشارة مسبقًا، ثم من العذراء وهي في بدء حملها، ثم من زكريا الكاهن وأليصابات.
ثم يتأكد مرة أخرى في يوم ميلاده، من الملائكة وجمهور جند السماء والمجوس الذين تحملوا مشقة السفر الطويل، لكي يروا ملك اليهود ويسجدوا له ويقدموا هدايا تعبر عن يقين إيمانهم بملكوته.
تركيز المسيح المتواصل على حقيقة الملكوت:
إذن، فالوجه الآخر لميلاد المسيح الطفل وهو مقمط ومضجع في مذود، هو هذا الملكوت المعلن من السماء ومن الملائكة والحكماء، الذي وُلد المسيح ليفتتحه ويدبره لحساب الإنسان.
فالمسيح وُلد وعلى كتفه مفتاح بيت داود، كقول ملاك البشارة للعذراء ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية
[8].
لذلك يلزم أن نثبت ذهننا على هذا الوجه الآخر، لأنه محور الميلاد وجوهره الذي إذا دققنا في قراءتنا للإنجيل، وجدنا أن هذا الوجه الآخر يظل هو الأقوى والفعال على مدى الإنجيل وكل الأسفار.
فلم يركز المسيح في أقواله وأمثاله في شيء، أو على شيء، كما ركز على ملكوت الله!! بل وكان ملكوت الله موضوع بداية كرازة المسيح من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات
[9].
ولو تذكرون حوادث الإنجيل، نجد أن في ختام تعاليم المسيح بعد القيامة، وعلى مدى الأربعين يومًا التي كان يظهر فيها لتلاميذه، كان المسيح يتكلم معهم عن الأمور المختصة بملكوت الله
[10]. وأظنكم تذكرون جيدًا على مدى الإنجيل أمثال المسيح عن ملكوت الله، التي حاول الرب فيها أن يشرح ويصف ملكوت الله الذي لا يُشرح ولا يوصف بكافة أنواع الأمثال والأوصاف.
ومن اهتمام الرب بتقديم هذه الأمثال المتعددة الأوصاف للملكوت، يتضح أمامنا خطورة مفهوم الملكوت كما يراه المسيح، فلم يكن مثل واحد قادرًا أن يصف ملكوت الله، بل ولا كل هذه الأمثال معًا كانت كافية، وإلا ما اضطر المسيح أن يخصص أربعين يومًا وهو في ملء القيامة والتجلي ليشرح ويتكلم أيضًا، فيما يخص ملكوت الله بعد ثلاث سنوات ونصف من الكلام والتعليم المتواصل عن الملكوت بأمثال وعلانية!!
فملكوت الله بعد كل ما قيل في الإنجيل وكل الشروحات، يظل جديدًا باستمرار يحتاج إلى تكميل، حيث بعد كل كلام تنتهي الكلمات وكل معانيها وتبقى حقيقة الملكوت كما هي، حياة لا توصف بل ويلزم أن تُعاش!! لذلك فمهما تكلمنا عن الملكوت، نجد الكلمات في النهاية قد تضاءلت، وبقي الملكوت حاجة تحتاجها النفس أكثر جدًا مما يحتاجها الفكر أو التصور.
سر الميلاد القائم في تجسد كلمة الله،
هو الشرح الوحيد لحقيقة ملكوت الله:
وكما أن ميلاد المسيح من العذراء في شكله الخارجي هو مجرد إنسان عادي تحيط به أحداث كبيرة وحسب، كما رآه الكثيرون، ولا يزالون، إذ يرون في المسيح مجرد إنسان عظيم وُلد من عذراء في قداسة وبإعجاز غير مفهوم؛ حيث ينتهي هذا الإعجاز بالعقل إلى ما ينتهي إليه أي لغز غير قابل للحل، هكذا تمامًا وبالحرف الواحد كان المسيح يطرح أمثاله عن الملكوت، فيراها البعض مجرد أمثال تحوي ألغازًا حكيمة وحسب، ثم يعود المسيح إلى أخصائه ليكشف لهم علانية سر الأمثال التي كان يقولها عن الملكوت كألغاز!! [11]
فسأله تلاميذه قائلين: ما عسى أن يكون هذا المثل؟ فقال قد أعطى أن تعرفوا أسرار ملكوت الله، وأما للباقين فبأمثال، حتى أنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يفهمون.(إنجيل لوقا ٨: ٩-١٠)
المسيح وأمثاله عن الملكوت:
وهكذا كان المسيح في ميلاده وصليبه وقيامته، كأحد الأمثال التي كان يقولها عن ملكوت الله، فالمسيح المولود من العذراء لا يظهر منه إلا مجرد حكمة أو لغز، أما لذوي العيون التي ترى والآذان التي تسمع فيرون فيه الوجه الآخر للميلاد الله ظهر في الجسد
، حيث ينكشف في هذا المولود سر السماء وسر قوة الله وسلطانه ومجده ورسم جوهره!!
والعجيب أن الله لم يجرم المتشككين من نموذج مبكت لغبائهم، وهو نموذج جاء مبكرًا جدًا في شهادته لسر المسيح الذي لا يُستقصى، هذا النموذج هو المجوس الذين جاءوا من المشرق من بعيد جدًا ليسجدوا للطفل الملك المولود في بيت لحم!!
لقد كان المجوس في ملء الوعي من رؤية الوجه الآخر للميلاد، لقد انفتحت عيونهم فرأوا نجمه في السماء، وانفتحت آذانهم فسمعوا السر وفهموا كل شيء، وأطاعوا الرؤيا، ولم يعاندوا الصوت!
هذا هو المسيح المولود في بيت لحم، سر مخفي وهو منظور!! تستطيع أن تكتفي به في وجهه المنظور كقصة أو مجرد حكمة أو لغز، هذا إذا اكتفيت به كمسيح التاريخ وكرواية من روايات الإنجيل، فإذا انفتحت العين والأذن صار المسيح وصار ميلاد المسيح في وجهه غير المنظور، لا تسعه الكتب ولا يسعه عقل الإنسان، لأنه يصير مثل السر الكائن في أمثاله عن الملكوت، مصدر رؤيا لشبع لا ينتهي، ومصدر فهم وحكمة تتجاوز كل المدركات. فهو حبة الحنطة، كما قال عن نفسه، وكما قال -في مثله- عن الملكوت سواء بسواء، فيها سر الموت والقيامة، وفيها سر الجوع والشبع!!
لذلك حينما انشغل المسيح كل الانشغال بشرح ملكوت الله، فهو إنما كان يعلن نفسه ويفسر ميلاده!!
فلو استطعنا أن نرجع إلى أمثال المسيح كلها ونتعمقها بالروح لاستطعنا أن نعرف الكثير عن سر المسيح نفسه!! وحينما أرسل الرب تلاميذه للكرازة . وضح من إرساليته لهم مدى الصلة القائمة بين الملكوت والمسيح: إذهبوا إكرزوا ببشارة الملكوت
، أنتم شهود لي
، الذي يقبلكم يقبلني، والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني
.
هنا يضع المسيح نفسه محور الكرازة بالملكوت. صحيح أن الملكوت هو ملكوت أبي
، ولكن أنا هو الطريق
ولا أحد يأتي إلى الآب إلا بي
، من ليس له الابن ليس له الآب
.
المسيح الطفل المولود،
يكشف عن أسرار الملكوت:
صحيح أن ملكوت الله «قوة»، ولكن المسيح المولود في بيت لحم، يكشف لنا عن الوجه المضيء الهادئ الوديع جدًا لهذه القوة.
صحيح أن ملكوت الله نظام وترتيب وقانون، ولكن المسيح المولود في بيت لحم يكشف عن صفة القلب المحب العطوف المتواضع والمضحي الذي أُعطى أن يفجر طاقات هذا النظام والترتيب والقانون!!
صحيح أن ملكوت الله بحسب الفكر والنطق سيادة عظمى، وسلطان إلهي فائق، وتدبير سمائي، وإرادة علوية. ولكن الذي حدث في بيت لحم يكشف لنا أن ملكوت الله برهبته ومخافته وسموه الفائق، لم يعد غريبًا عن جنسنا ولا بعيدًا عن رؤيتنا ولا صعبًا لأسماعنا، فالمعجزة الأبدية تمت، والآية الخارجة عن كل منطق بشري كملت وأعلنتها السماء أن وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة [آية]تجدون طفلًا مقمطًا مضجعًا في مذود
[12].
فالمسيح الطفل الصغير المولود في المذود يكشف لنا عن الوجه الآخر للملكوت، كيف أنه في ملء البساطة والوداعة واللطف الإلهي الفائق، تقرر نظام الخلاص في هذا الملكوت!!
بساطة المسيح المولود،
وبساطة الملكوت:
هنا نلاحظ أن استعلان الملكوت «كقوة ونظام وتدبير وسيادة» في شخص المسيح الوديع في صورته، وهو مولود في بيت لحم، يقرب لنا الإحساس بالملكوت جدًا وللغاية. وهو نفس الاصطلاح الذي شدد عليه المسيح تمامًا قد اقترب منكم ملكوت السموات
الرب قريب
[at hand]
وفي الحقيقة، لو انتبهنا إلى أن قامة الطفولة التي أمامنا الآن في بيت لحم هي قامة بسيطة غاية البساطة يمكن اغتصابها بالحب، كما يحتضن الإنسان أي طفل ويقبّله، هكذا أراد الرب أن يصف قرب وبساطة ملكوت السموات منا. بل هكذا تحقق لنا قرب هذا الملكوت في بساطته المتناهية، ومفهوم إمكانية اغتصابه بميلاد المسيح في مذود سهل الاقتحام، وليس في قصور الملوك خلف الحواجز والأبواب والخدم والأسياد!!
وفي الحقيقة أرى أن كل الذين ذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي -كما يقول القديس بولس الرسول [13]– يدركون الآن جدًا صدق هذا الكلام ويدركون بأي مجانية صارت هذه العطية السماوية وصار اغتصابها وسهولة اقتنائها، كما يقول الكتاب: [14]
ملكوت السماوات يُغصب، والغاصبون يختطفونه.(إنجيل متى ١١: ١٤)
فلا فارق بين سهولة أن يحتضن الإنسان طفلًا رضيعًا في حضنه وبين أن يقتني الروح القدس في قلبه!!
الملكوت والمسيح بين يدينا:
فالآن أدعوكم أن تنظروا معي جيدًا ومليًا في عيني يسوع الطفل المقمط المضجع في المذود، لأن في عينيه سترون الوجه الآخر للميلاد، سترون الملكوت بكل عمقه وعلوه، ننظره فينظر إلينا في بساطة وقبول فائق، احملوا يسوع الطفل على ذراعكم لكي تدركوا وتتحققوا من خفة الملكوت بكل حمله ونيره!!
ولكن لكي تثقوا أن ملكوت الله حقا مُشخّص في المسيح يسوع، اسمعوا الرب نفسه وهو يجمع بين الملكوت (الإنجيل) ونفسه حينا يقول للمتنسكين الذين تركوا كل شيء «من أجلي ومن أجل الإنجيل»، ومعروف طبعًا أن الإنجيل هو بشارة الملكوت!!
هذه الحقيقة التي تربط بين الملكوت والمسيح كانت حاضرة جدًا في ذهن التلاميذ، فيكتبها القديس لوقا البشير بوضوح هكذا [15]:
ولما صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم يسوع اعتمدوا رجالًا ونساء.(أعمال الرسل ٨: ١٢)
الملكوت المنظور،
والملكوت غير المنظور:
لقد ألمح الرب إلى هذه الحقيقة بصورة غاية في العمق، عندما قال لتلاميذه ها ملكوت الله داخلكم
[16]، وعندما قال للقديس بطرس الرسول أعطيك مفاتيح ملكوت السموات
[17]، وكان يشير بذلك إلى الاعتراف الذي نطقه أنت هو المسيح ابن الله الحي
. فالإيمان بالمسيح هو مفتاح الملكوت بحسب النبوات مفتاح بيت مملكة داود
[18].
ولكن كثيرًا ما التبست حقيقة الملكوت غير المنظورة على الكثيرين، مثل النساء البسطاء اللاتي كن يخدمنه، فأم ولديّ زبدي انتهزت فرصة مواتية، وتقدمت بطلب إلى الرب أن يجلس ولداها عن يمين ويسار الرب في ملكوته!
هذا الإحساس بالملكوت الآتي، أو استعلان الرب في ملكوته بغتة لم يكن غريبًا عن الجو الذي كان يعيشه كل من كان حول المسيح، فقوة المسيح كانت هي هي استعلان ملكوت الله. لذلك فالملكوت ظل يقترب من ذهنهم بعد كل معجزة حتى صار في صميم إحساسهم، حتى قالوا بأنه وشيك الوقوع، وتحمسوا له، لدرجة الترقب الشديد بل والتوتر أحيانًا وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال
[19]. فأخذ المسيح يعلمهم بالمثل أنه لا يزال أمامه رحلة طويلة للعودة بعد زمان كثير ليُستعلن الملكوت بالوجه المنظور: إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكًا ويرجع
[20]
وكان هذا الشعور بقرب الخلاص وظهور ملكوت الله باستعلان ملكوت المسيح المنظور، كان مسيطرًا أيضًا على كل التلاميذ والجموع في أيام المسيح الأخيرة على الأرض، حتى أن الجموع كلها هتفت له قبل الصليب بأسبوع أوصنا مبارك الآتي باسم الرب. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، أوصنا في الأعالي
[21].
ملكوت الله يأتي بقوة:
ولكن كان ميعاد هذا الهتاف متقدمًا ٥٧ يومًا تمامًا، لأن ما حدث يوم الخمسين بحلول الروح القدس بقوة من السماء، كان تحقيقًا لمجيء الملكوت، ولكن بصورته شبه المنظورة أيضًا، حيث تم الخلاص من الأعالي، واستُعلن المسيح مخلصًا وفاديًا، وصار ملكوت الله حقيقة داخلية تملأ كيان التلاميذ وتنطق في أفواههم بكل لسان لكل أمة مدعوة للخلاص!
لأن تحقيق مجيء الملكوت بقوة الروح القدس يوم الخمسين هو نفسه الذي ألمح إليه الرب عندما قال هنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله آتيًا بقوة
[22].
ولكن بصورة أخرى أعمق وأسبق، رأينا الملائكة يعلنون عن ظهور هذا الملكوت عينه في لحظة ميلاد المسيح في بيت لحم بنفس نشيد أطفال يوم أحد الخوص، حينما هتفت الملائكة مع جمهور جند السماء المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة
[23]، حيث ربطت الملائكة بين ملكوت الله في السماء وظهوره على الأرض بآن واحد.
وهذا الهتاف هو المرادف السري لنشيد الأطفال «أوصنا في الأعالي، مبارك الآتي باسم الرب، مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب».
تسبحة الملائكة أنشودة لاهوتية:
هنا يهمنا جدًا يا أحبائي أن نستشف قصد الملائكة من الربط بين مجد الله في الأعالي، والسلام والمسرة على الأرض!!
أليست هذه هي حقيقة التجسد؟ والسر المخفي للوجه الآخر لميلاد المسيح في مذود البهائم؟ فالتحام السماء بالأرض وغير المنظور بالمنظور والله بالإنسان، هو حقيقة الميلاد، وهي نفسها حقيقة استعلان ملكوت الله في الناس وبين البشر، عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.
لهذا، فإن نشيد الملائكة ليس مقطوعة موسيقية أو ترنيمة مفرحة، بل هو استعلان لاهوتي وكشف حقيقة سر المسيح إنما بطريقة ملائكية أي بالتسبيح!!
فبالرغم من تجسد الكلمة ابن الله الوحيد، أي «تأنسه» أو بتعبير القديس بولس الرسول حلً فيه كل ملء اللاهوت جسديًا
[24] والله ظهر في الجسد
[25]، أقول بالرغم من ذلك ندرك من تسبحة الملائكة أن هذا الاتحاد لم يلغِ كيان السماء أو كيان الأرض، بل ظل المجد لله في الأعالي، وفي نفس الوقت ولنفس السبب حلّ ملء السلام والمسرة في الناس!!
فالاتحاد الذي تم في شخص المسيح لم يلغ شيئًا، بل أضاف مجدًا لله في السماء، بسبب اتضاعه وتنازله، كما أضاف للإنسان سلامًا وسرورًا بسبب الحب والفداء والخلاص الذي أتى به إلى أرض الشقاء والأحزان. هذا هو قصد الملكوت واستعلانه ليكون للإنسان على الأرض كل مشيئة الله ومسرة إرادته التي في السماء، وهذا هو جوهر الصلاة التي علّمها الرب لتلاميذه ليهذوا بها كلما صلوا ليأتِ ملكوتك. لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض
.
فالمسيح لأنه ربط في نفسه مشيئة الآب بمشيئة البشر ليجعل منهما مشيئته الخاصة الواحدة، استطاع أن يهبنا هذه النعمة العظمى أن نصير فيه قادرين أن نكمل مشيئة الله في حياتنا على الأرض، وأن نستقبل في أعماقنا باستمرار بواسطة سر الجسد والدم، وعلى قدر ما نصلي، ملكوت الله الذي نطلبه ليأتي دائمًا!!
فإذا عدنا الآن إلى تسبحة الملائكة المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة
، استطعنا أن نرى فيها وعدًا أكيدًا بتحقيق صلاة أبانا الذي في السموات
، التي نقولها كل حين، إنما في المسيح يسوع ربنا!! لأنه كما من أجل ميلاد المسيح في بيت لحم صار تهليل الملائكة وإعلانهم أنه قد صار المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة، هكذا في سر تجسد المسيح نطلب بثقة ليأتِ ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
!!
هنا، المسيح في الاثنين هو سر هذا الارتباط الفائق بين السماء والأرض، بين الله والبشر.
ثم مرة أخيرة، فلننظر إلى المسيح الطفل المولود في المذود، ولنتأمل مدى بساطة واتضاع دخوله إلى عالمنا، لأنه بهذه البساطة عينها وبهذا الاتضاع عينه نستطيع أن نقتحم الوجه الآخر من هذا الميلاد المذهل لنرى الله، نقتحم سر مشيئه الله وسر ملكوتة الذي صار في متناول أيدينا، مثل هذا الطفل الوديع الراقد في المذود.
الميلاد في الوجه غير المنظوربقلم الأب متى المسكين، كلمة أُلقيت عل مجمع رهبان دير القديس أنبا مقار ليلة عيد الميلاد المجيد عام ١٩٧٩، ونُشرت أوّل ما نُشر في مجلة مرقس، عدد يناير ١٩٧٩، الصفحات من ٣ إلى ١٥
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله