أمس ومع بداية العام الجديد 2025، أعلنت صحف إيطالية عن قتل الشرطة الإيطالية لمهاجر مصري عمره 18 عامًا، بعدما طعن 4 مواطنين بينهم مسن وفتاة بواسطة سكين منزلي في مدينة ريميني الإيطالية، ولم تُعرف حتى الآن الدوافع لارتكاب هذه الجريمة، مما أعاد للأذهان حادث سوق في 20 ديسمبر الماضي بمدينة ماجديبورج عاصمة ولاية ساكسونيا في وسط ألمانيا، حيث دارت وقتها حالة من الجدل على السوشيال ميديا الناطقة بالعربية خاصة بعد توارد المعلومات عن هُوِيَّة مرتكب الواقعة وأنه لاجئ إلى ألمانيا من أصول سُعُودية، ونظرًا لوجود سوابق بارتكاب نفس الحوادث الإرهابية في سنوات مضت من متطرفين إسلاميين، بعضهم أعضاء في تنظيمات إرهابية، والبعض الآخر يدين بالولاء لها بشكل فردي، فراحت ردود الفعل الأولى لهذا التفسير، ولكن كانت المفاجأة عندما عُرف من منشورات مرتكب الحادث على منصة “X” أنه مسلم سابق، وحاليًا ملحد، حيث دار جدل من نوع آخر.

في الحوادث السابقة كانت ردود الأفعال عادة تنقسم لفريقين؛ الأول يهاجم المتطرفة، والثاني من يحاول تبرئة الدين منهم وأنهم لا يمثلون الإسلام، وأن الإرهاب لا دين له، في هذه الحادثة دار الجدل ذاته، ولكن كانت هناك بعض ردود الفعل الساخرة من الفريق الأول بأنه ” لا يمثل الإلحاد الصحيح”، أو “لا يمثل صحيح ال”، بينما دلل الفريق الثاني على وجهة نظره بأن “الإرهاب لا دين له”، وهكذا دارت الجدالات المختلفة على السوشيال ميديا.

ما استوقفني في حادثة ألمانيا، أنه على الرغم من التنوع والاختلاف الثقافي الذي تحظى به مختلف دول منطقة أو الدول العربية، إلا أنها جميعا مصابة بداء القبلية الثنائية، ورغبة كل قبيلة في نفي الأخرى ليكون هناك طرف أوحد فقط، وأقصد هنا أن هذه المنطقة دائمًا قائمة على الثنائيات مسلمين/ مسيحيين، مسلمين/ يهود، عرب/ إسرائيليين، سنة/ شيعة، أرثوذكس/ إنجيليين/، مؤمنين/ ملحدين، متدينين/ علمانيين، حتى في مجال الرياضة، أهلاوي/ زملكاوي، هلالي/ نصراوي، وهكذا تدور الصراعات بين أتباع الفرق والقبائل المختلفة في الشرق الأوسط، ويرغب كل طرف في القضاء على الطرف الآخر معتقدين بأن الحياة ستكون أفضل بالقضاء على الآخر.

لم يتعلم سكان هذه المنطقة التعايش مع بعضهم البعض حتى الآن، وقبول التنوع والاختلاف والتعددية، ودائمًا، ما يريد أن ينفي كل طرف وجود الآخر بشكل عنيف، ويعود هذا لحالة المسخ الفكري الذي تكونت عليه عقول سكان تلك المنطقة، وهنا لا فارق بين متدين وملحد، ففي الحقيقة لديهم نفس البناء الفكري، ونفس الثقافة الغالبة، والتعاطي مع الأمور بالمنطق القبلي الخاص بمشجي كرة القدم، لذا فلم أتعجب من كون مرتكب حادث سوق عيد الميلاد في ماجديبرج بألمانيا يطلق على نفسه أنه ملحد، فما نُشر عن دوافعه لارتكاب الحادث أنه يرى أن ألمانيا تريد أسلمة أوروبا وتساعد المسلمين القادمين من الشرق الأوسط على حساب الملحدين واللادينيين القادمين من نفس المنطقة، فتفتق ذهنه لكي يعاقبهم على ذلك التصور بأن يفعل نفس ما يفعل أعضاء الجماعات الإرهابية الذين يريدون معاقبة حكام دول أوروبا على موقفهم من القضية الفلسطينية مثلًا، وغيرها من القضايا بدعس أو طعن مواطنين أبرياء ليس لهم بأي مما يعاني منه مرتكبي تلك الحوادث.

الطفلة والنسرثم الأهم أنه أي إنسان ناضج وعاقل ويستخدم مخه جيدا، يدخل في رحلة بحث حول القيم والمعتقدات والأخلاق التي يتبناها، وهذه الرحلة طويلة تمتد بامتداد عمره، وقد لا يستطيع أن يحسم الإنسان خلالها أي أمر بشكل قطعي، لكن سكان الشرق الأوسط يتعاملون مع الأفكار والدين والمعتقدات بمنطق قبلي، سواء يكون الشخص في قبيلة المتدينيين، وإذا لم يعجبه الحال فيقرر أن يتحول فورًا لقبيلة الملحدين أو اللادينيين دون قراءة وبحث جيدين، وأضرب هنا المثل برسام الكاريكاتير الكندي تشارلز تمبلتون (7 أكتوبر 1915- 7 يونيو 2001) فالرجل عبر رحلة حياته، تحول من واعظ ومبشر مسيحي إلى لا أدري وغير مؤمن كما كان سابقًا، وحينما سأله الصحفي الأمريكي لي ستروبل مؤلف ثلاثية كتب (القضية: الإيمان، القضية: المسيح، القضية: الخالق) في لقاء جمعهم ببعض فالرجل لم يحسم أي إجابة حول إيمانه بوجود الله من عدمه، وكان ما تسبب في تشككه وبعده عن الإيمان صورة لطفلة إفريقية تنهش المجاعة في جسدها ويقف بجوارها نسر ينتظر موتها حتى يلتهم ما تبقى من جسدها.

لذا فالفارق كبير بين عقليات نشأت على التفكير النقدي، وقبول التنوع والاختلاف، وقدرتها على النقد وطرح الأسئلة حتى لو لم تجد لها إجابات حاسمة، في مقابل عقليات نمت على الدعوة لعدم التفكير، وتعتمد على غيرها ممن يدعون رجال الدين في شرقنا التعيس ليجاوبون على كل أسئلتهم في الحياة باسم الدين، ودعوتهم لهم بألا يفكروا لأن الدين أجاب ولا يجب أن نفكر، فالتفكير خطر.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.